الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الإتقان في علوم القرآن ***
كَمَا انْقَسَمَ الْإِيجَازُ إِلَى إِيجَازِ قَصْرٍ وَإِيجَازِ حَذْفٍ، كَذَلِكَ انْقَسَمَ الْإِطْنَابُ إِلَى بَسْطٍ وَزِيَادَةٍ.
فَالْأَوَّلُ: الْإِطْنَابُ بِتَكْثِيرِ الْجُمَلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [164] فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَطْنَبَ فِيهَا أَبْلَغَ الْإِطْنَابِ لِكَوْنِ الْخِطَابِ مَعَ الثَّقَلَيْنِ، وَفِي كُلِّ عَصْرٍ وَحِينٍ، لِلْعَالِمِ مِنْهُمْ وَالْجَاهِلِ، وَالْمُوَافِقِ مِنْهُمْ وَالْمُنَافِقِ. وَقَوْلِه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غَافِرٍ: 7]، فَقَوْلُهُ: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إِطْنَابٌ؛ لِأَنَّ إِيمَانَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَعْلُومٌ، وَحَسَّنَهُ إِظْهَارُ شَرَفِ الْإِيمَانِ تَرْغِيبًا فِيهِ. {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فُصِّلَتْ: 6، 7]، وَلَيْسَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُزَكٍّ، وَالنُّكْتَةُ: الْحَثُّ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَائِهَا، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْمَنْعِ؛ حَيْثُ جُعِلَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْرِكِينَ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ بِأَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: دُخُولُ حَرْفٍ فَأَكْثَرَ مِنْ حُرُوفٍ التَّأْكِيدِ السَّابِقَةِ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ، وَهِيَ إِنَّ، وَأَنَّ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ وَالْقَسَمِ، وَأَلَا الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ، وَأَمَا، وَهَاءُ التَّنْبِيهِ، وَكَأَنَّ فِي تَأْكِيدِ التَّشْبِيهِ، وَلَكِنَّ فِي تَأْكِيدِ الِاسْتِدْرَاكِ، وَلَيْتَ فِي تَأْكِيدِ التَّمَنِّي، وَلَعَلَّ فِي تَأْكِيدِ التَّرَجِّي، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ، وَأَمَّا فِي تَأْكِيدِ الشَّرْطِ، وَقَدْ وَالسِّينُ وَسَوْفَ، وَالنُّونَانِ فِي تَأْكِيدِ الْفِعْلِيَّةِ، وَلَا التَّبْرِئَةِ، وَلَنْ، وَلَمَّا فِي تَأْكِيدِ النَّفْيِ. وَإِنَّمَا يَحْسُنُ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِهَا إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ بِهِ مُنْكِرًا أَوْ مُتَرَدِّدًا. وَيَتَفَاوَتُ التَّأْكِيدُ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِنْكَارِ وَضَعْفِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ رُسُلِ عِيسَى إِذْ كَذَّبُوا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14]، فَأَكَّدَ بِـ (إِنَّ) وَاسْمِيَّةِ الْجُمْلَةِ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَة: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16]، فَأَكَّدَ بِالْقَسَمِ وَ(إِنَّ) وَاللَّامِ وَاسْمِيَّةِ الْجُمْلَةِ لِمُبَالَغَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْإِنْكَارِ؛ حَيْثُ قَالُوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15]. وَقَدْ يُؤَكَّدُ بِهَا، وَالْمُخَاطَبُ بِهِ غَيْرُ مُنْكِرٍ لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ، وَقَدْ يُتْرَكُ التَّأْكِيدُ وَهُوَ مَعَهُ مُنْكِرٌ؛ لِأَنَّ مَعَهُ أَدِلَّةً ظَاهِرَةً لَوْ تَأَمَّلَهَا لَرَجَعَ عَنْ إِنْكَارِهِ؛ وَلِذَلِكَ يُخَرَّجُ قَوْلُهُ} ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 15، 16]، أَكَّدَ الْمَوْتَ تَأْكِيدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ، لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطِبِينَ- لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ- تَنْزِيلَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَوْتَ، وَأَكَّدَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ تَأْكِيدًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ نَكِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أَدِلَّتُهُ ظَاهِرَةً كَانَ جَدِيرًا بِأَنْ لَا يُنْكَرَ، فَنُزِّلَ الْمُخَاطَبُونَ مَنْزِلَةَ غَيْرِ الْمُنْكِرِ حَثًّا لَهُمْ عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّتِهِ الْوَاضِحَةِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الْبَقَرَة: 2]، نَفَى عَنْهُ الرِّيبَةَ بِـ (لَا) عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ أَنَّهُ ارْتَابَ فِيهِ الْمُرْتَابُونَ، لَكِنْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ تَعْوِيلًا عَلَى مَا يُزِيلُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ، كَمَا نُزِّلَ الْإِنْكَارُ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بُولِغَ فِي تَأْكِيدِ الْمَوْتِ تَنْبِيهًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وَلَا يَغْفُلُ عَنْ تَرَقُّبِهِ، فَإِنَّ مَآلَهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ أُكِّدَتْ جُمْلَتُهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِيهَا غَايَةَ السَّعْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَخْلُدُ، وَلَمْ يُؤَكِّدْ جُمْلَةَ الْبَعْثِ إِلَّا بِإِنَّ؛ لِأَنَّهُ أُبْرِزَ فِي صُورَةِ الْمَقْطُوعِ بِهِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَلَا يَقْبَلُ إِنْكَارًا. وَقَالَ التَّاجُ بْنُ الْفِرْكَاح: أَكَّدَ الْمَوْتَ رَدًّا عَلَى الدَّهْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِبَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَاسْتَغْنَى عَنْ تَأْكِيدِ الْبَعْثِ هُنَا لِتَأْكِيدِهِ وَالرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِهِ فِي مَوَاضِعَ؛ كَقَوْلِه: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التَّغَابُن: 7]. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا كَانَ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ اسْتَغْنَى عَنْ إِعَادَةِ اللَّامِ لِذِكْرِهَا فِي الْأَوَّلِ. وَقَدْ يُؤَكَّدُ بِهَا- أَيْ: بِاللَّامِ- لِلْمُسْتَشْرِفِ الطَّالِبِ الَّذِي قُدِّمَ لَهُ مَا يُلَوِّحُ بِالْخَبَرِ، فَاسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهِ، نَحْو: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هُودٍ: 37]؛ أَيْ: لَا تَدْعُنِي يَا نُوحُ فِي شَأْنِ قَوْمِكَ، فَهَذَا الْكَلَامُ يُلَوِّحُ بِالْخَبَرِ تَلْوِيحًا، وَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، فَصَارَ الْمَقَامُ مَقَامَ أَنْ يَتَرَدَّدَ الْمُخَاطَبُ فِي أَنَّهُمْ: هَلْ صَارُوا مَحْكُومًا عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ أَوْ لَا؟ فَقِيلَ: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ بِالتَّأْكِيدِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [الْحَجّ: 1]، لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالتَّقْوَى، وَظُهُورُ ثَمَرَتِهَا، وَالْعُقَابُ عَلَى تَرْكِهَا مَحَلُّهُ الْآخِرَةُ، تَشَوَّقَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى وَصْفِ حَالِ السَّاعَةِ فَقَالَ: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجّ: 1]، بِالتَّأْكِيدِ لِيَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يُوسُفَ: 35] فِيهِ تَحْيِيرٌ لِلْمُخَاطَبِ وَتَرَدُّدٌ فِي أَنَّهُ كَيْفَ لَا يُبَرِّئُ نَفْسَهُ وَهِيَ بَرِيئةٌ زَكِيَّةٌ، ثَبَتَتْ عِصْمَتُهَا وَعَدَمُ مُوَاقَعَتِهَا السُّوءَ، فَأَكَّدَهُ بِقَوْلِه: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يُوسُفَ: 53]. وَقَدْ يُؤَكَّدُ لِقَصْدِ التَّرْغِيبِ، نَحْو: {فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [الْبَقَرَة: 37]، أَكَّدَ بِأَرْبَعِ تَأْكِيدَاتٍ تَرْغِيبًا لِلْعِبَادِ فِي التَّوْبَةِ، وَقَدْ سَبَقَ عَلَى أَدَوَاتِ التَّأْكِيدِ الْمَذْكُورَةِ وَمَعَانِيهَا وَمَوَاقِعِهَا فِي النَّوْعِ الْأَرْبَعِينِ. فَائِدَةٌ: إِذَا اجْتَمَعَتْ إِنَّ وَاللَّامُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْجُمْلَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ؛ لِأَنَّ إِنَّ أَفَادَتِ التَّكْرِيرَ مَرَّتَيْنِ، فَإِذَا دَخَلَتِ اللَّامُ صَارَتْ ثَلَاثًا. وَعَنِ الْكِسَائِيِّ أَنَّ اللَّامَ لِتَوْكِيدِ الْخَبَرِ، وَإِنَّ لِتَوْكِيدِ الِاسْمِ. وَفِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ لِلنِّسْبَةِ لَا لِلِاسْمِ وَلَا لِلْخَبَرِ، وَكَذَلِكَ نُونُ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةُ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْفِعْلِ ثَلَاثًا، وَالْخَفِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِهِ مَرَّتَيْنِ، فَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْو: (يَا أَيُّهَا)؛ الْأَلِفُ وَالْهَاءُ لَحِقَتَا أَيًّا تَوْكِيدًا، فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ (يَا) مَرَّتَيْنِ، وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا. هَذَا كَلَامُهُ، وَتَابَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَائِدَةٌ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} [مَرْيَمَ: 66]، قَالَ الْجُرْجَانِيُّ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ: لَيْسَتِ اللَّامُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، فَإِنَّهُ مُنْكِرٌ؛ فَكَيْفَ يُحَقِّقُ مَا يُنْكِرُ، وَإِنَّمَا قَالَهُ حِكَايَةً لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّادِرِ مِنْهُ بِأَدَاءِ التَّأْكِيدِ، فَحَكَاهُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: كُلُّ حَرْفٍ زِيدَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ إِعَادَةِ الْجُمْلَةِ مَرَّةً أُخْرَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فِي كَشَّافِهِ الْقَدِيم: الْبَاءُ فِي خَبَرِ مَا وَلَيْسَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَمَا أَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنِ التَّأْكِيدِ بِالْحَرْفِ وَمَا مَعْنَاهُ، إِذْ إِسْقَاطُهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: هَذَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ الطِّبَاعِ، يَجِدُونَ مِنْ زِيَادَةِ الْحَرْفِ مَعْنًى لَا يَجِدُونَهُ بِإِسْقَاطِهِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ الْعَارِفُ بِوَزْنِ الشِّعْرِ طَبْعًا، إِذَا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْبَيْتُ بِنَقْصٍ أَنْكَرَهُ، وَقَالَ: أَجِدُ نَفْسِي عَلَى خِلَافِ مَا أَجِدُهَا بِإِقَامَةِ الْوَزْنِ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْحُرُوفُ تَتَغَيَّرُ نَفْسُ الْمَطْبُوعِ بِنُقْصَانِهَا، وَيَجِدُ نَفْسَهُ بِزِيَادَتِهَا عَلَى مَعْنًى بِخِلَافِ مَا يَجِدُهَا بِنُقْصَانِهِ. ثُمَّ بَابُ الزِّيَادَةِ فِي الْحُرُوفِ، وَزِيَادَةُ الْأَفْعَالِ قَلِيلٌ، وَالْأَسْمَاءُ أَقَلُّ. أَمَّا الْحُرُوفُ فَيُزَادُ مِنْهَا: إِنْ، وَأَنْ، وَإِذْ، وَإِذَا، وَإِلَى، وَأَمْ، وَالْبَاءُ، وَالْفَاءُ، وَفِي، وَالْكَافُ، وَاللَّامُ، وَلَا، وَمَا، وَمِنْ، وَالْوَاوُ، وَتَقَدَّمَتْ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ مَشْرُوحَةً. وَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَزِيدَ مِنْهَا كَانَ، وَخُرِّجَ عَلَيْه: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 29]. وَأَصْبَحَ، وَخَرَّجَ عَلَيْه: {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [الْمَائِدَة: 53]. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ بِهِ عِلَّةٌ تُزَادُ بِاللَّيْلِ أَنْ يَرْجُوَ الْفَرَجَ عِنْدَ الصَّبَاحِ، فَاسْتَعْمَلَ أَصْبَحَ لِأَنَّ الْخُسْرَانَ حَصَلَ لَهُمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَرْجُونَ فِيهِ الْفَرَجَ، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً. وَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَنَصَّ أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُزَادُ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ الْحُكْمُ عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ فِي مَوَاضِعَ كَلَفْظِ (مِثْلِ) فِي قَوْلِه: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [الْبَقَرَة: 137]؛ أَيْ: بِمَا.
وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: التَّوْكِيدُ الْمَعْنَوِيُّ بِكُلٍّ وَأَجْمَعَ وَكِلَا وَكِلْتَا، نَحْو: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الْحِجْر: 30]. وَفَائِدَتُهُ: رَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ وَعَدَمِ الشُّمُولِ. وَادَّعَى الْفَرَّاءُ أَنَّ (كُلُّهُمْ) أَفَادَتْ ذَلِكَ، وَ(أَجْمَعُونَ) أَفَادَتِ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى السُّجُودِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا مُتَفَرِّقِينَ. ثَانِيهَا: التَّأْكِيدُ اللَّفْظِيُّ؛ وَهُوَ تَكْرَارُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ. إِمَّا بِمُرَادِفِهِ، نَحْو: {ضَيِّقًا حَرَجًا} [الْأَنْعَام: 25] بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَ: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فَاطِرٍ: 27]، وَجَعَلَ مِنْهُ الصَّفَّارُ: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الْأَحْقَاف: 26] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كِلَيْهِمَا لِلنَّفْيِ وَجَعَلَ مِنْهُ غَيْرُهُ: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الْحَدِيد: 13]، فَـ (وَرَاءَ) هُنَا لَيْسَ ظَرْفًا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ (ارْجِعُوا) يُنْبِئُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى ارْجِعُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ارْجِعُوا، ارْجِعُوا. وَإِمَّا بِلَفْظِه: وَيَكُونُ فِي الِاسْمِ وَالْفِعْلِ وَالْحَرْفِ وَالْجُمْلَة: فَالِاسْمُ، نَحْو: {قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ} [الْإِنْسَان: 15، 16]، {دَكًّا دَكًّا} [الْفَجْر: 21]. وَالْفِعْلُ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ} [الطَّارِق: 17]. وَاسْمُ الْفِعْل: نَحْو: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 36]. وَالْحَرْفُ: نَحْو: {فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هُودٍ: 108]، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 36]. وَالْجُمْلَةُ: نَحْو: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشَّرْح: 5، 6]، وَالْأَحْسَنُ اقْتِرَانُ الثَّانِيَةِ بِثُمَّ، نَحْو: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الِانْفِطَار: 17، 18]، {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التَّكَاثُر: 3، 4]. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ تَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِالْمُنْفَصِلِ، نَحْو: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الْبَقَرَة: 35]، {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} [الْمَائِدَة: 24]، {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الْأَعْرَاف: 115]. وَمِنْهُ تَأْكِيدُ الْمُنْفَصِلِ بِمِثْلِه: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يُوسُفَ: 37]. ثَالِثُهَا: تَأْكِيدُ الْفِعْلِ بِمَصْدَرِهِ، وَهُوَ عِوَضٌ مِنْ تَكْرَارِ الْفِعْلِ مَرَّتَيْنِ. وَفَائِدَتُهُ: رَفْعُ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الْفِعْلِ بِخِلَافِ التَّوْكِيدِ السَّابِقِ فَإِنَّهُ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ الْمَجَازِ فِي الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. كَذَا فَرَّقَ بِهِ ابْنُ عُصْفُورٍ وَغَيْرُهُ، وَمِنْ ثَمَّ رَدَّ بَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي دَعْوَاهُ نَفْيَ التَّكْلِيمِ حَقِيقَةً بِقَوْلِه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النِّسَاء: 164]؛ لِأَنَّ التَّوْكِيدَ رَفَعَ الْمَجَازَ فِي الْفِعْلِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الْأَحْزَاب: 56]، {تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطُّور: 9، 10]، {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الْإِسْرَاء: 63]، وَلَيْسَ مِنْهُ {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الْأَحْزَاب: 10]، بَلْ هُوَ جَمْعُ (ظَنٍّ) لِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ، وَأَمَّا {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الْأَنْعَام: 80]، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَالشَّأْنِ. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُنْعَتَ بِالْوَصْفِ الْمُرَادِ، نَحْو: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الْأَحْزَاب: 41]، {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الْأَحْزَاب: 49]، وَقَدْ يُضَافُ وَصْفُهُ إِلَيْهِ، نَحْو: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 102]، وَقَدْ يُؤَكَّدُ بِمَصْدَرِ فِعْلٍ آخَرَ أَوِ اسْمِ عَيْنٍ نِيَابَةً عَنِ الْمَصْدَرِ، نَحْو: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [الْمُزَّمِّل: 8]، وَالْمَصْدَرُ تَبَتُّلًا، وَالتَّبْتِيلُ مَصْدَرُ بَتَّلَ. {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نُوحٍ: 17]؛ أَيْ: إِنْبَاتًا؛ إِذِ النَّبَاتُ اسْمُ عَيْنٍ. رَابِعُهَا: الْحَالُ الْمُؤَكِّدَةُ، نَحْو: {يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مَرْيَمَ: 33]، {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الْبَقَرَة: 60]، {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} [النِّسَاء: 79]، {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [الْبَقَرَة: 83]، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31]. وَلَيْسَ مِنْهُ: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النَّمْل: 10]؛ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ قَدْ لَا تَكُونُ إِدْبَارًا بِدَلِيلِ قَوْلِه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَة: 144]، وَلَا: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} [النَّمْل: 19]؛ لِأَنَّ التَّبَسُّمَ قَدْ لَا يَكُونُ ضَحِكًا، وَلَا: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [الْبَقَرَة: 91]، لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ؛ إِذْ كَوْنُهُ حَقًّا فِي نَفْسِهِ غَيْرُ كَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِمَا قَبْلَهُ.
وَهُوَ أَبْلَغُ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِ الْفَصَاحَةِ خِلَافًا لِبَعْضِ مَنْ غَلِطَ. وَلَهُ فَوَائِدُ: مِنْهَا: التَّقْرِيرُ: وَقَدْ قِيلَ الْكَلَامُ إِذَا تَكَرَّرَ تَقَرَّرَ، وَقَدْ نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرَّرَ الْأَقَاصِيصَ وَالْإِنْذَارَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِه: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]. وَمِنْهَا: التَّأْكِيدُ. وَمِنْهَا: زِيَادَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَنْفِي التُّهْمَةَ لِيَكْمُلَ تَلَقِّي الْكَلَامِ بِالْقَبُولِ، وَمِنْهُ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غَافِرٍ: 38، 39]، فَإِنَّهُ كَرَّرَ فِيهِ النِّدَاءَ لِذَلِكَ. وَمِنْهَا: إِذَا طَالَ الْكَلَامُ، وَخُشِيَ تَنَاسِي الْأَوَّلِ، أُعِيدَ ثَانِيهَا تَطْرِيَةً لَهُ وَتَجْدِيدًا لِعَهْدِهِ، وَمِنْهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النَّحْل: 119]، {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} [النَّحْل: 110]، {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [الْبَقَرَة: 89]، {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 188]، {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ} [يُوسُفَ: 4]. وَمِنْهَا: التَّعْظِيمُ وَالتَّهْوِيلُ، نَحْو: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [الْحَاقَّة: 1، 2]، {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [الْقَارِعَة: 1، 2]، {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الْوَاقِعَة: 28]. فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا النَّوْعُ أَحَدُ أَقْسَامِ النَّوْعِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ مِنْهَا التَّأْكِيدَ بِتَكْرَارِ اللَّفْظِ، فَلَا يَحْسُنُ عَدُّهُ نَوْعًا مُسْتَقِلًّا. قُلْتُ: هُوَ يُجَامِعُهُ وَيُفَارِقُهُ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَيَنْقُصُ عَنْهُ، فَصَارَ أَصْلًا بِرَأْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ التَّأْكِيدُ تَكْرَارًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَمْثِلَتِهِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ تَكْرَارًا كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا، وَقَدْ يَكُونُ التَّكْرِيرُ غَيْرَ تَأْكِيدٍ صِنَاعَةً، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ مَعْنًى. وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُكَرَّرَيْنِ، فَإِنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤَكَّدِهِ، نَحْو: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الْحَشْر: 18]، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 42]، فَالْآيَتَانِ مِنْ بَابِ التَّكْرِيرِ لَا التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ الصِّنَاعِيِّ. وَمِنْهُ: الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي التَّكْرِيرِ لِلطُّولِ. وَمِنْهُ: مَا كَانَ لِتَعَدُّدِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُكَرَّرُ ثَانِيًا مُتَعَلِّقًا بِغَيْرِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَّلُ، وَهَذَا الْقِسْمُ يُسَمَّى بِالتَّرْدِيدِ؛ كَقَوْلِه: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النُّور: 35]، وَقَعَ فِيهَا التَّرْدِيدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَجُعِلَ مِنْهُ قَوْلُهُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرَّحْمَن: 13، 16]، فَإِنَّهَا وَإِنْ تَكَرَّرَتْ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً فَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا قَبْلَهَا؛ وَلِذَلِكَ زَادَتْ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ عَائِدًا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمَا زَادَ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا لَيْسَ بِنِعْمَةٍ، فَذِكْرُ النِّقْمَةِ لِلتَّحْذِيرِ نِعْمَةٌ. وَقَدْ سُئِلَ: أَيُّ نِعْمَةٍ فِي قَوْلِه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرَّحْمَن: 26]؟ فَأُجِيبَ بِأَجْوِبَةٍ أَحْسَنُهَا: النَّقْلُ مِنْ دَارِ الْهُمُومِ إِلَى دَارِ السُّرُورِ، وَإِرَاحَةُ الْمُؤْمِنِ وَالْبَارِّ مِنَ الْفَاجِرِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} فِي سُورَةِ الْمُرْسَلَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ قَصَصًا مُخْتَلِفَةً، وَأَتْبَعَ كُلَّ قِصَّةٍ بِهَذَا الْقَوْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [الْآيَة: 8]: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} كُرِّرَتْ ثَمَانِي مَرَّاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ عَقِبَ كُلِّ قِصَّةٍ، فَالْإِشَارَةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ بِذَلِكَ إِلَى قِصَّةِ النَّبِيِّ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ، وَبِقَوْلِه: {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُهُ أَنَّ الْأَقَلَّ مَنْ قَوْمِهِ آمَنُوا أَتَى بِوَصْفِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْعِزَّةَ عَلَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَالرَّحْمَةَ لِمَنْ آمَنَ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ [الْآيَة: 17]، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَرَّرَ لِيَجِدُوا عِنْدَ سَمَاعِ كُلِّ نَبَإٍ مِنْهَا اتِّعَاظًا وَتَنْبِيهًا، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ تِلْكَ الْأَنْبَاءِ مُسْتَحِقٌّ لِاعْتِبَارٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَأَنْ يَتَنَبَّهُوا كَيْلَا يَغْلِبَهُمُ السُّرُورُ وَالْغَفْلَةُ. قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِكُلِّ مَا قَبْلَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِطْنَابٍ، بَلْ هِيَ أَلْفَاظٌ؛ كُلٌّ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ. قُلْتُ: إِذَا قُلْنَا: الْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ أُرِيدَ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْآخَرِ، وَلَكِنْ كُرِّرَ لِيَكُونَ نَصًّا فِيمَا يَلِيهِ وَظَاهِرًا فِي غَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: يَلْزَمُ التَّأْكِيدُ. قُلْتُ: وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُزَادُ بِهِ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي التَّأْكِيدِ الَّذِي هُوَ تَابِعٌ، أَمَّا ذِكْرُ الشَّيْءِ فِي مَقَامَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَا يَمْتَنِعُ. انْتَهَى. وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} إِلَى قَوْلِه: {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [النِّسَاء: 131، 132]، قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَكْرَارِ قَوْلِه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فِي آيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا فِي أَثَرِ الْأُخْرَى؟ قُلْنَا: لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الْخَبَرَيْنِ عَمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْهُ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ ذِكْرُ حَاجَتِهِ إِلَى بَارِئِهِ وَغِنَى بَارِئِهِ عَنْهُ، وَفِي الْأُخْرَى حِفْظُ بَارِئِهِ إِيَّاهُ وَعِلْمُهُ بِهِ وَبِتَدْبِيرِهِ. قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَا قِيلَ: (وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، قِيلَ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَصْلُحُ أَنْ تُخْتَتَمَ بِوَصْفِهِ مَعَهُ بِالْحِفْظِ وَالتَّدْبِيرِ. انْتَهَى. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 78]، قَالَ الرَّاغِبُ: الْكِتَابُ الْأَوَّلُ مَا كَتَبُوهُ بِأَيْدِيهِمُ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [الْبَقَرَة: 79]، وَالْكِتَابُ الثَّانِي التَّوْرَاةُ، وَالثَّالِثُ لِجِنْسِ كُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا؛ أَيْ: مَا هُوَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا يُظَنُّ تَكْرَارًا وَلَيْسَ مِنْهُ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الْكَافِرُونَ: 1، 2]، إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّ: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ}؛ أَيْ: فِي الْحَالِ، {مَا أَعْبُدُ} فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ}؛ أَيْ: فِي الْحَالِ، {مَا عَبَدْتُمْ} فِي الْمَاضِي، {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ}؛ أَيْ: فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {مَا أَعْبُدُ}؛ أَيْ: فِي الْحَالِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَصْدَ نَفْيُ عِبَادَتِهِ لِآلِهَتِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الثَّلَاثَةِ. وَكَذَا: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [الْبَقَرَة: 198]، ثُمَّ قَالَ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [الْبَقَرَة: 200]، ثُمَّ قَالَ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [الْبَقَرَة: 203]، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَذْكَارِ غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ: الذِّكْرُ فِي مُزْدَلِفَةٍ عِنْدَ الْوُقُوفِ بِقُزَحَ، وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} إِشَارَةٌ إِلَى تَكَرُّرِهِ ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِدَلِيلِ تَعْقِيبِهِ بِقَوْلِه: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ)، وَالذِّكْرُ الثَّالِثُ: إِشَارَةٌ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالذِّكْرُ الْأَخِيرُ: لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْهُ: تَكْرِيرُ حَرْفِ الْإِضْرَابِ فِي قَوْلِه: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الْأَنْبِيَاء: 5]، وَقَوْلُهُ: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النَّمْل: 66]. وَمِنْهُ: قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [الْبَقَرَة: 236]، ثُمَّ قَالَ: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَة: 241]، فَكَرَّرَ الثَّانِي لِيَعُمَّ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ، فَإِنَّ الْآيَةَ الْأُولَى فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمُسِيسِ خَاصَّةً. وَقِيلَ: لِأَنَّ الْأُولَى لَا تُشْعِرُ بِالْوُجُوبِ، وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَة: إِنْ شِئْتُ أَحْسَنْتُ وَإِنْ شِئْتُ فَلَا، فَنَزَلَتِ الثَّانِيَةُ. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَكْرِيرُ الْأَمْثَالِ كَقَوْلِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فَاطِرٍ: 19- 23]. وَكَذَلِكَ ضَرَبَ مَثَلَ الْمُنَافِقِينَ أَوَّلَ الْبَقَرَةِ بِالْمُسْتَوْقِدِ نَارًا، ثُمَّ ضَرَبَهُ بِأَصْحَابِ الصَّيِّبِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالثَّانِي أَبْلَغُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى فَرْطِ الْحَيْرَةِ وَشِدَّةِ الْأَمْرِ وَفَظَاعَتِهِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ آخِرُهُمْ يَتَدَرَّجُونَ فِي نَحْوِ هَذَا مِنَ الْأَهْوَنِ إِلَى الْأَغْلَظِ. وَمِنْ ذَلِكَ تَكْرِيرُ الْقِصَصِ كَقِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَ اللَّهُ مُوسَى فِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ كِتَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوَاصِم: ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ نُوحٍ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ آيَةً، وَقِصَّةَ مُوسَى فِي تِسْعِينَ آيَةً. وَقَدْ أَلَّفَ الْبَدْرُ ابْنُ جَمَاعَةَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْمُقْتَنَصُ فِي فَوَائِدِ تَكْرَارِ الْقَصَصِ، وَذَكَرَ فِي تَكْرِيرِ الْقَصَصِ فَوَائِدُ. مِنْهَا: أَنَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ زِيَادَةَ شَيْءٍ لَمْ يُذْكَرْ فِي الَّذِي قَبْلَهُ أَوْ إِبْدَالَ كَلِمَةٍ بِأُخْرَى لِنُكْتَةٍ، وَهَذِهِ عَادَةُ الْبُلَغَاءِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَسْمَعُ الْقِصَّةَ مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى أَهْلِهِ، ثُمَّ يُهَاجِرُ بَعْدَهُ آخَرُونَ يَحْكُونَ مَا نَزَلْ بَعْدَ صُدُورِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ، فَلَوْلَا تَكْرَارُ الْقِصَصِ لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسَى إِلَى قَوْمٍ، وَقِصَّةُ عِيسَى إِلَى آخَرِينَ، وَكَذَا سَائِرُ الْقَصَصِ، فَأَرَادَ اللَّهُ اشْتِرَاكَ الْجَمِيعِ فِيهَا، فَيَكُونُ فِيهِ إِفَادَةٌ لِقَوْمٍ وَزِيَادَةُ تَأْكِيدٍ لِآخَرِينَ. وَمِنْهَا: أَنَّ فِي إِبْرَازِ الْكَلَامِ الْوَاحِدِ فِي فُنُونٍ كَثِيرَةٍ وَأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْفَصَاحَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الدَّوَاعِيَ لَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا كَتَوَفُّرِهَا عَلَى نَقْلِ الْأَحْكَامِ؛ فَلِهَذَا كُرِّرَتِ الْقِصَصُ دُونَ الْأَحْكَامِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَعَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا، ثُمَّ أَوْضَحَ الْأَمْرَ فِي عَجْزِهِمْ بِأَنْ كَرَّرَ ذِكْرَ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ إِعْلَامًا بِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، بِأَيِّ نَظْمٍ جَاءُوا، وَبِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرُوا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ قَالَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [الْبَقَرَة: 23]، فَلَوْ ذُكِرَتِ الْقِصَّةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَاكْتُفِيَ بِهَا، لَقَالَ الْعَرَبِيُّ: ائْتُونَا أَنْتُمْ بِسُورَةٍ مَنْ مِثْلِهِ، فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَعْدَادِ السُّورِ، دَفْعًا لِحُجَّتِهِمْ مَنْ كَلِّ وَجْهٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْقِصَّةَ الْوَاحِدَةَ لَمَّا كُرِّرَتْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهَا فِي كُلِّ مَوْضِعِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ وَتَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَأَتَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ غَيْرِ أُسْلُوبِ الْأُخْرَى، فَأَفَادَ ذَلِكَ ظُهُورَ الْأَمْرِ الْعَجِيبِ فِي إِخْرَاجِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي صُوَرٍ مُتَبَايِنَةٍ فِي النَّظَرِ وَجَذْبِ النُّفُوسِ إِلَى سَمَاعِهَا، لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّ التَّنَقُّلِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَجَدِّدَةِ وَاسْتِلْذَاذِهَا بِهَا، وَإِظْهَارِ خَاصَّةِ الْقُرْآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ مَعَ تَكْرِيرِ ذَلِكَ فِيهِ هُجْنَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَا مَلَلٌ عِنْدَ سَمَاعِهِ، فَبَايَنَ ذَلِكَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ. وَقَدْ سُئِلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي عَدَمِ تَكْرِيرِ قِصَّةِ يُوسُفَ وَسَوقِهَا مَسَاقًا وَاحِدًا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْقَصَصِ؟ وَأُجِيبُ بِوُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ فِيهَا تَشْبِيبَ النِّسْوَةِ بِهِ، وَحَالَ امْرَأَةٍ وَنِسْوَةٍ افْتَتَنُوا بِأَبْدَعِ النَّاسِ جَمَالًا، فَنَاسَبَ عَدَمَ تَكْرَارِهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِغْضَاءِ وَالسِّتْرِ، وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ حَدِيثَ النَّهْيِ عَنْ تَعْلِيمِ النِّسَاءِ سُورَةَ يُوسُفَ. ثَانِيهَا: أَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِحُصُولِ الْفَرَجِ بَعْدَ الشِّدَّةِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْقَصَصِ، فَإِنَّ مَآلَهَا إِلَى الْوَبَالِ، كَقِصَّةِ إِبْلِيسَ، وَقَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ، فَلَمَّا اخْتُصَّتْ بِذَلِكَ اتَّفَقَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا لِخُرُوجِهَا عَنْ سَمْتِ الْقَصَصِ. ثَالِثُهَا: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِنَّمَا كَرَّرَ اللَّهُ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ، وَسَاقَ قِصَّةَ يُوسُفَ مَسَاقًا وَاحِدًا إِشَارَةً إِلَى عَجْزِ الْعَرَبِ، كَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: إِنْ كَانَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي فَافْعَلُوا فِي قِصَّةِ يُوسُفَ مَا فَعَلْتُ فِي سَائِرِ الْقَصَصِ. قُلْتُ: وَظَهَرَ لِي جَوَابٌ رَابِعٌ؛ وَهُوَ أَنَّ سُورَةَ يُوسُفَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ طَلَبِ الصَّحَابَةِ أَنْ يَقُصَّ عَلَيْهِمْ، كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَنَزَلَتْ مَبْسُوطَةً تَامَّةً لِيَحْصُلَ لَهُمْ مَقْصُودُ الْقَصَصِ مِنَ اسْتِيعَابِ الْقِصَّةِ، وَتَرْوِيحِ النَّفْسِ بِهَا، وَالْإِحَاطَةِ بِطَرَفَيْهَا. وَجَوَابٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَقْوَى مَا يُجَابُ بِه: إِنَّ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّمَا كُرِّرَتْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا إِفَادَةُ إِهْلَاكِ مَنْ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ لِتَكْرِيرِ تَكْذِيبِ الْكَفَّارِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا كَذَّبُوا نَزَلَتْ قِصَّةٌ مُنْذِرَةٌ بِحُلُولِ الْعَذَابِ كَمَا حَلَّ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الْأَنْفَال: 38]، {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الْأَنْعَام: 6]، وَقِصَّةُ يُوسُفَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا ذَلِكَ، وَبِهَذَا أَيْضًا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ حِكْمَةِ عَدَمِ تَكْرِيرِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقِصَّةِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ وَقِصَّةِ الذَّبِيحِ. فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ تَكَرَّرَتْ قِصَّةُ وِلَادَةِ يَحْيَى وَوِلَادَةِ عِيسَى مَرَّتَيْنِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ مَا ذَكَرْتَ. قُلْتُ: الْأُولَى فِي سُورَةِ (كهيعص)، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، أُنْزِلَتْ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالثَّانِيَةُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، أُنْزِلَتْ خِطَابًا لِلْيَهُودِ وَلِنَصَارَى نَجْرَانَ حِينَ قَدِمُوا؛ وَلِهَذَا اتَّصَلَ بِهَا ذِكْرُ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُبَاهَلَةِ.
وَتَرِدُ لِأَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: التَّخْصِيصُ فِي النَّكِرَةِ، نَحْو: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاء: 92]. الثَّانِي: التَّوْضِيحُ فِي الْمَعْرِفَةِ؛ أَيْ: زِيَادَةُ الْبَيَانِ، نَحْو: {وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الْأَعْرَاف: 158]. الثَّالِثُ: الْمَدْحُ وَالثَّنَاءُ، وَمِنْهُ صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى، نَحْو: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الْفَاتِحَة: 1- 4]، {الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الْحَشْر: 24]. وَمِنْهُ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [الْمَائِدَة: 44]، فَهَذَا الْوَصْفُ لِلْمَدْحِ وَإِظْهَارِ شَرَفِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّعْرِيضِ بِالْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ بُعَدَاءُ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْهَا. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. الرَّابِعُ: الذَّمُّ، نَحْو: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النَّحْل: 98]. الْخَامِسُ: التَّأْكِيدُ لِرَفْعِ الْإِيهَامِ، نَحْو: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْل: 51]، فَإِنَّ (إِلَهَيْنِ) لِلتَّثْنِيَةِ، فَـ (اثْنَيْنِ) بَعْدَهُ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ، وَلِإِفَادَةِ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ إِنَّمَا هُوَ لِمَحْضِ كَوْنِهِمَا اثْنَيْنِ فَقَطْ، لَا لِمَعْنًى آخَرَ مِنْ كَوْنِهِمَا عَاجِزَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْوِحْدَةَ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا النَّوْعِيَّةُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ»، وَتُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا نَفْيُ الْعِدَّةِ، فَالتَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِهَا، فَلَوْ قِيلَ: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ فَقَطْ لَتُوِهِّمَ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ اتِّخَاذِ جِنْسَيْنِ آلِهَةً، وَإِنْ جَازَ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ عَدَدٌ آلِهَةً، وَلِهَذَا أُكِّدَ بِالْوَاحِدَةِ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الْأَنْعَام: 19]. وَمِثْلُهُ: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 27]، عَلَى قِرَاءَةِ تَنْوِينِ (كَلٍّ). وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الْحَاقَّة: 13]، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ تَعَدُّدِ النَّفْخَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ قَدْ تَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ بِدَلِيل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إِبْرَاهِيمَ: 34]. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النِّسَاء: 176]، فَإِنَّ لَفْظَ كَانَتَا تُفِيدُ التَّثْنِيَةَ، فَتَفْسِيرُهُ بِاثْنَتَيْنِ لَمْ يُفِدْ زِيَادَةً عَلَيْهِ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْفَارِسِيُّ بِأَنَّهُ أَفَادَ الْعَدَدَ الْمَحْضَ مُجَرَّدًا عَنِ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ كَانَتَا صَغِيرَتَيْنِ أَوْ كَبِيرَتَيْنِ أَوْ صَالِحَتَيْنِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَلَمَّا قَالَ: (اثْنَتَيْنِ) أَفْهَمَ أَنَّ فَرْضَ الثِّنْتَيْنِ تَعَلَّقَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا ثِنْتَيْنِ فَقَطْ، وَهِيَ فَائِدَةٌ لَا تَحْصُلُ مِنْ ضَمِيرِ الْمُثَنَّى. وَقِيلَ: أَرَادَ: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا) فَعَبَّرَ بِالْأَدْنَى عَنْهُ وَعَمَّا فَوْقَهُ اكْتِفَاءً، وَنَظِيرُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [الْبَقَرَة: 282]، وَالْأَحْسَنُ فِيهِ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الشَّهِيدَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ. وَمِنَ الصِّفَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ قَوْلُهُ: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الْأَنْعَام: 38]، فَقَوْلُهُ يَطِيرُ: لِتَأْكِيدِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ حَقِيقَتُهُ، فَقَدْ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ: بِجَنَاحَيْهِ لِتَأْكِيدِ حَقِيقَةِ الطَّيَرَانِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى شِدَّةِ الْعَدْوِ وَالْإِسْرَاعِ فِي الْمَشْيِ، وَنَظِيرُهُ: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ} [الْفَتْح: 11]؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى غَيْرِ اللِّسَانِيِّ بِدَلِيل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [الْمُجَادَلَة: 8]، وَكَذَا {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الْحَجّ: 46]؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْعَيْنِ، كَمَا أُطْلِقَتِ الْعَيْنُ مَجَازًا عَلَى الْقَلْبِ فِي قَوْلِه: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} [الْكَهْف: 101].
لَا يُقَالُ: رَجُلٌ فَصِيحٌ مُتَكَلِّمٌ، بَلْ مُتَكَلِّمٌ فَصِيحٌ، وَأُشْكِلَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي إِسْمَاعِيلَ: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مَرْيَمَ: 51]، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ حَالٌ لَا صِفَةٌ؛ أَيْ: مُرْسَلًا فِي حَالِ نُبُوَّتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نَوْعِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ أَمْثِلَةٌ مِنْ هَذِهِ.
فَمِنَ الْأَوَّل: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الْمُلْك: 3]، وَمِنَ الثَّانِي: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يُوسُفَ: 43].
فَائِدَةٌ: إِذَا تَكَرَّرَتِ النُّعُوتُ لِوَاحِدٍ فَالْأَحْسَنُ- إِنْ تَبَاعَدَ مَعْنَى الصِّفَاتِ- الْعَطْفُ، نَحْو: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الْحَدِيد: 3]، وَإِلَّا تَرَكَهُ، نَحْو: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [الْقَلَم: 10- 13]. فَائِدَةٌ: قَطْعُ النُّعُوتِ فِي مَقَامِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ أَبْلَغُ مِنْ إِجْرَائِهَا. قَالَ الْفَارِسِيُّ: إِذَا ذُكِرَتِ الصِّفَاتُ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُخَالَفَ فِي إِعْرَابِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، فَإِذَا خُولِفَ فِي الْإِعْرَابِ كَانَ الْمَقْصُودُ أَكْمَلَ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ تَتَنَوَّعُ وَتَتَفَنَّنُ، وَعِنْدَ الِاتِّحَادِ تَكُونُ نَوْعًا وَاحِدًا. مِثَالُهُ فِي الْمَدْح: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [النِّسَاء: 162]، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِه: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} [الْبَقَرَة: 177]. وَقُرِئَ شَاذًّا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بِرَفْعِ (رَبٍّ) وَنَصْبِهِ. وَمِثَالُهُ فِي الذَّمّ: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [الْمَسَد: 4].
وَالْقَصْدُ بِهِ الْإِيضَاحُ بِهِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. وَفَائِدَتُهُ الْبَيَانُ وَالتَّأْكِيدُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَخَاكَ، بَيَّنْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِزَيْدٍ الْأَخَ لَا غَيْرَ. أَمَّا التَّأْكِيدُ فَلِأَنَّهُ عَلَى نِيَّةِ تَكْرَارِ الْعَامِلِ، فَكَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ: إِمَّا بِالْمُطَابَقَةِ فِي بَدَلِ الْكُلِّ، وَإِمَّا بِالتَّضْمِينِ فِي بَدَلِ الْبَعْضِ، أَوْ بِالِالْتِزَامِ فِي بَدَلِ الِاشْتِمَالِ. مِثَالُ الْأَوَّل: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الْفَاتِحَة: 6، 7]، {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52، 53]، {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [الْعَلَق: 15- 16] وَمِثَالُ الثَّانِي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آلِ عِمْرَانَ: 97]، {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الْبَقَرَة: 251]. وَمِثَالُ الثَّالِث: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الْكَهْف: 63]، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [الْبَقَرَة: 217]، {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ} [الْبُرُوج: 4، 5]، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ} [الزُّخْرُف: 33]. وَزَادَ بَعْضُهُمْ بَدَلَ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَقَدْ وَجَدْتُ لَهُ مِثَالًا فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ} [مَرْيَمَ: 60، 61]، فَجَنَّاتُ عَدْنٍ بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ بَعْضٌ، وَفَائِدَتُهُ تَقْرِيرُ أَنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ لَا جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ. قَالَ ابْنُ السَّيِّد: وَلَيْسَ كُلُّ بَذْلٍ يُقْصَدُ بِهِ رَفَعُ الْإِشْكَالِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ، بَلْ مِنَ الْبَدَلِ مَا يُرَادُ بِهِ التَّأْكِيدُ، وَإِنْ كَانَ مَا قَبْلَهُ غَنِيًّا عَنْهُ كَقَوْلِه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشُّورَى: 52، 53]، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُذْكَرِ الصِّرَاطُ الثَّانِي لَمْ يَشُكَّ أَحَدٌ فِي أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ مِنَ الْبَدَلِ مَا الْغَرَضُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ. انْتَهَى. وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الْأَنْعَام: 74]، قَالَ: وَلَا بَيَانَ فِيهِ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدِّ، فَأُبْدِلَ لِبَيَانِ إِرَادَةِ الْأَبِ حَقِيقَةً.
وَهُوَ كَالصِّفَةِ فِي الْإِيضَاحِ، لَكِنْ يُفَارِقُهَا فِي أَنَّهُ وُضِعَ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِيضَاحِ بِاسْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ بِخِلَافِهَا، فَإِنَّهَا وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى حَاصِلٍ فِي مَتْبُوعِهَا. وَفَرَّقَ ابْنُ كَيْسَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَدَل: بِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْمَقْصُودُ وَكَأَنَّكَ قَرَّرْتُهُ فِي مَوْضِعِ الْمُبَدَلِ مِنْهُ، وَعَطْفُ الْبَيَانِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي شَرْحِ الْكَافِيَة: عَطْفُ الْبَيَانِ يَجْرِي مَجْرَى النَّعْتِ فِي تَكْمِيلِ مَتْبُوعِهِ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّ تَكْمِيلَهُ مَتْبُوعَهُ بِشَرْحٍ وَتَبْيِينٍ لَا بِدِلَالَةٍ عَلَى مَعْنًى فِي الْمَتْبُوعِ أَوْ سَبَبِيَّةٍ، وَمَجْرَى التَّأْكِيدِ فِي تَقْوِيَةِ دَلَالَتِهِ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ تَوَهُّمَ مَجَازٍ، وَمَجْرَى الْبَدَلِ فِي صَلَاحِيَتِهِ لِلِاسْتِقْلَالِ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَنَوِيِّ الِاطِّرَاحِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آلِ عِمْرَانَ: 97]، {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النُّور: 35]. وَقَدْ يَأْتِي لِمُجَرَّدِ الْمَدْحِ بِلَا إِيضَاحِ، وَمِنْهُ: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [الْمَائِدَة: 97]، فَـ (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) عَطْفُ بَيَانٍ لِلْمَدْحِ لَا لِلْإِيضَاحِ.
وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ أَيْضًا، وَجُعِلَ مِنْهُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي} [يُوسُفَ: 86]، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 146]، {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طَه: 112]، {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طَه: 77]، {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طَه: 107]، قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التَّوْبَة: 78، وَالزُّخْرُف: 80]، {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَة: 48]، {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [الْمُدَّثِّر: 28]، {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [الْبَقَرَة: 171]، {أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} [الْأَحْزَاب: 67]، {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فَاطِرٍ: 35]، فَإِنَّ (نَصَبٌ) كَلَغَبٍ وَزْنًا وَمَعْنًى. {صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [الْبَقَرَة: 157]، {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [الْمُرْسَلَات: 6]، قَالَ ثَعْلَبٌ: هُمَا بِمَعْنًى. وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ وُجُودَ هَذَا النَّوْعِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَخْلَصُ فِي هَذَا أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا، وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ.
وَفَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى فَضْلِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ الْعَامِّ، تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الْوَصْفِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ. وَحَكَى أَبُو حَيَّانَ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هَذَا الْعَطْفُ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَفْضِيلًا. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [الْبَقَرَة: 238]، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [الْبَقَرَة: 98]، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 104]، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الْأَعْرَاف: 104]، فَإِنَّ إِقَامَتَهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ، وَخُصَّتْ بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِرُتْبَتِهَا لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ، وَخُصَّ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ بِالذِّكْرِ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ فِي دَعْوَى عَدَاوَتِهِ، وَضُمَّ إِلَيْهِ مِيكَائِيلُ لِأَنَّهُ مَلَكُ الرِّزْقِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَجْسَادِ، كَمَا أَنَّ جِبْرِيلَ مَلَكُ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: إِنَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَمَّا كَانَا أَمِيرَيِ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَدْخُلَا فِي لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ أَوَّلًا، كَمَا أَنَّ الْأَمِيرَ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْجُنْدِ. حَكَاهُ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِبِ. وَمِنْ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النِّسَاء: 110]، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الْأَنْعَام: 93]، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْوَاوِ، كَمَا هُوَ رَأْيُ ابْنُ مَالِكٍ فِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ. وَخُصَّ الْمَعْطُوفُ فِي الثَّانِيَةِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ. تَنْبِيهٌ: الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ هُنَا مَا كَانَ فِيهِ الْأَوَّلُ شَامِلًا لِلثَّانِي لَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ.
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وَجُودَهُ فَأَخْطَأَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ وَاضِحَةٌ، وَهُوَ التَّعْمِيمُ، وَأُفْرِدَ الْأَوَّلُ بِالذِّكْرِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الْأَنْعَام: 93]، وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ، فَهُوَ أَعَمُّ. {آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الْحِجْر: 87]، {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نُوحٍ: 28]، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التَّحْرِيم: 4]، جَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يُونُسَ: 31]، بَعْدَ قَوْلِه: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} [يُونُسَ: 31].
قَالَ أَهْلُ الْبَيَان: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تُبْهِمَ ثُمَّ تُوَضِّحَ فَإِنَّكَ تُطْنِبُ. وَفَائِدَتُهُ: إِمَّا رُؤْيَةُ الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْن: الْإِبْهَامِ وَالْإِيضَاحِ، أَوْ لِتَمَكُّنِ الْمَعْنَى فِي النَّفْسِ تَمَكُّنًا زَائِدًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَ الطَّلَبِ، فَإِنَّهُ أَعَزُّ مِنَ الْمُنْسَاقِ بِلَا تَعَبٍ، أَوْ لِتَكْمُلَ لَذَّةُ الْعِلْمِ بِهِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِذَا عُلِمَ مِنْ وَجْهٍ مَا، تَشَوَّقَتِ النَّفْسُ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ بَاقِي وُجُوهِهِ وَتَأَلَّمَتْ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْوُجُوهِ كَانَتْ لَذَّتُهُ أَشَدَّ مِنْ عِلْمِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طَه: 25]، فَإِنَّ (اشْرَحْ) يُفِيدُ طَلَبَ شَرْحِ شَيْءٍ مَا، وَ(صَدْرِي) يُفِيدُ تَفْسِيرَهُ وَبَيَانَهُ. وَكَذَلِكَ: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طَه: 26]، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ لِلْإِرْسَالِ الْمُؤْذِنِ بِتَلَقِّي الشَّدَائِدِ، وَكَذَلِكَ: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشَّرْح: 1]، فَإِنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ امْتِنَانٍ وَتَفْخِيمٍ. وَكَذَا: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الْحِجْر: 66]. وَمِنْهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، نَحْو: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} إِلَى قَوْلِه: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التَّوْبَة: 36]، وَعَكْسُهُ كَقَوْلِه: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [الْبَقَرَة: 196]، أُعِيدَ ذِكْرُ الْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ الْوَاوَ فِي (وَسَبْعَةٍ) بِمَعْنَى (أَوْ) فَتَكُونُ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا، كَمَا فِي قَوْلِه: {خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، ثُمَّ قَالَ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فُصِّلَتْ: 9، 10]، فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوَّلًا، وَلَيْسَتْ أَرْبَعَةً غَيْرَهُمَا، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَجَزَمَ بِهِ الزَّمْلَكَانِيُّ فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ. قَالَ: وَنَظِيرُهُ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الْأَعْرَاف: 142]، فَإِنَّهُ رَافِعٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعَشَرَةُ مِنْ غَيْرِ مُوَاعَدَةٍ. قَالَ ابْنُ عَسْكَرٍ: وَفَائِدَةُ الْوَعْدِ بِثَلَاثِينَ أَوَّلًا ثُمَّ بِعَشْرٍ لِيَتَجَدَّدَ لَهُ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعِدَةِ، وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا، مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ، حَاضِرَ الذِّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَعَدَ بِالْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً، فَلَمَّا فُصِلَتِ اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ، وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ فِي الْعَجَائِب: فِي قَوْلِه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ثَمَانِيَةُ أَجْوِبَةٍ: جَوَابَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَجَوَابٌ مِنَ الْفِقْهِ، وَجَوَابٌ مِنَ النَّحْوِ، وَجَوَابٌ مِنَ اللُّغَةِ، وَجَوَابٌ مِنَ الْمَعْنَى، وَجَوَابَانِ مِنَ الْحِسَابِ، وَقَدْ سُقْتُهَا فِي أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ.
قَالَ أَهْلُ الْبَيَان: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَلَامِ لَبْسٌ وَخَفَاءٌ فَيُؤْتَى بِمَا يُزِيلُهُ وَيُفَسِّرُهُ. وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [الْمَعَارِج: 19- 21]، فَقَوْلُهُ: (إِذَا مَسَّهُ) إِلَخْ.. تَفْسِيرٌ لِلْهَلُوعِ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُ. {الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255]، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: قَوْلُهُ: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) تَفْسِيرٌ لِلْقَيُّومِ. {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 49]، فَيُذَبِّحُونَ، وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلسَّوْمِ. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 59]، فَـ (خَلَقَهُ) وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ. {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الْمُمْتَحِنَة: 1]، فَـ (تُلْقُونَ) تَفْسِيرٌ لِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَ. {الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدِ} الْآيَةَ [الْإِخْلَاص: 2، 3]، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: (لَمْ يَلِدْ) إِلَى آخِرِهِ تَفْسِيرٌ لِلصَّمَدِ، وَهُوَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَمَتَى كَانْتِ الْجُمْلَةُ تَفْسِيرًا لَمْ يَحْسُنِ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهَا دُونَهَا؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الشَّيْءِ لَاحِقٌ بِهِ وَمُتَمِّمٌ لَهُ، وَجَارٍ مَجْرَى بَعْضِ أَجْزَائِهِ.
وَرَأَيْتُ فِيهِ تَأْلِيفًا مُفْرَدًا لِابْنِ الصَّائِغِ وَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا: زِيَادَةُ التَّقْرِيرِ وَالتَّمْكِين: نَحْو: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الْإِخْلَاص: 1، 2]، وَالْأَصْلُ هُوَ الصَّمَدُ. {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الْإِسْرَاء: 105]، {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غَافِرٍ: 61]، {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 78]. وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّعْظِيم: نَحْو: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْبَقَرَة: 282]، {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الْمُجَادَلَة: 22]، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الْإِسْرَاء: 78]، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الْأَعْرَاف: 26]. وَمِنْهَا: قَصْدُ الْإِهَانَةِ وَالتَّحْقِير: نَحْو: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الْمُجَادَلَة: 19]، {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ} [الْإِسْرَاء: 53]. وَمِنْهَا: إِزَالَةُ اللَّبْسِ حَيْثُ يُوهِمُ الضَّمِيرُ أَنَّهُ غَيْرَ الْأَوَّل: نَحْو: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 26]، لَوْ قَالَ: (تُؤْتِيهِ) لَأَوْهَمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ. {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الْفَتْح: 6]؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: (عَلَيْهِمْ دَائِرَتُهُ) لَأَوْهَمَ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يُوسُفَ: 76]، لَمْ يَقُلْ: (مِنْهُ) لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَخِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مُبَاشِرٌ بِطَلَبِ خُرُوجِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا فِي الْمُبَاشَرَةِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، فَأُعِيدَ لَفْظُ الظَّاهِرِ لِنَفْيِ هَذَا، وَلَمْ يَقُلْ: (مِنْ وِعَائِهِ) لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى يُوسُفَ؛ لِأَنَّ الْعَائِدَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ اسْتَخْرَجَهَا. وَمِنْهَا: قَصْدُ تَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ، وَإِدْخَالُ الرَّوْعِ عَلَى ضَمِيرِ السَّامِعِ بِذِكْرِ الِاسْمِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: الْخَلِيفَةُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا. وَمِنْهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 58]، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النَّحْل: 90]. وَمِنْهَا: قَصْدُ تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْأُمُور: وَمِنْهُ: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}. وَمِنْهَا: تَعْظِيمُ الْأَمْر: نَحْو: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الْعَنْكَبُوت: 19]، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [الْعَنْكَبُوت: 20]، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [الْإِنْسَان: 1، 2]. وَمِنْهَا: الِاسْتِلْذَاذُ بِذِكْرِه: وَمِنْهُ: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ} [الزُّمَر: 74]، لَمْ يَقُلْ: (مِنْهَا)، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ. وَمِنْهَا: قَصْدُ التَّوَسُّلِ مِنَ الظَّاهِرِ إِلَى الْوَصْف: وَمِنْهُ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} بَعْدَ قَوْلِه: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [الْأَعْرَاف: 158]، لَمْ يَقُلْ: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّي) لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ هُوَ مَنْ وُصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ. وَمِنْهَا: التَّنْبِيهُ عَلَى عِلِّيَةِ الْحُكْم: نَحْو: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [الْبَقَرَة: 59]، {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [الْبَقَرَة: 98]، لَمْ يَقُلْ لَهُمْ إِعْلَامًا بِأَنَّ مَنْ عَادَى هَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَادَاهُ لِكُفْرِهِ. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يُونُسَ: 17]، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الْأَعْرَاف: 170]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الْكَهْف: 30]. وَمِنْهَا: قَصْدُ الْعُمُوم: نَحْو: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ} [يُوسُفَ: 53]، لَمْ يَقُلْ: (إِنَّهَا) لِئَلَّا يُفْهَمُ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ. {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا} [النِّسَاء: 151]. وَمِنْهَا: قَصْدُ الْخُصُوص: نَحْو: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الْأَحْزَاب: 50]، لَمْ يَقُلْ لَكَ تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ. وَمِنْهَا: الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْجُمْلَةِ فِي حِكَمِ الْأَوْلَى: نَحْو: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشُّورَى: 24]، فَإِنَّ (وَيَمْحُ اللَّهُ) اسْتِئْنَافٌ لَا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الشَّرْطِ. وَمِنْهَا: مُرَاعَاةُ الْجِنَاس: وَمِنْهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} السُّورَةَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، وَمِثْلُهُ ابْنُ الصَّائِغِ بِقَوْلِه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [الْعَلَق: 2]، ثُمَّ قَالَ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى}، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْأَوَّلِ الْجِنْسُ، وَبِالثَّانِي آدَمُ، أَوْ مَنْ يَعْلَمُ الْكِتَابَةَ، أَوْ إِدْرِيسَ. وَبِالثَّالِثِ أَبُو جَهْلٍ. وَمِنْهَا: مُرَاعَاةُ التَّرْصِيعِ وَتَوَازُنِ الْأَلْفَاظِ فِي التَّرْكِيب: ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِه: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَة: 282]. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَحَمَّلَ ضَمِيرًا لَا بُدَّ مِنْهُ: وَمِنْهُ: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الْكَهْف: 77]، لَوْ قَالَ (اسْتَطْعَمَاهَا) لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعِمَا الْقَرْيَةَ، أَوْ: (اسْتَطْعَمَاهُمْ) فَكَذَلِكَ؛ لَأَنَّ جُمْلَةَ (اسْتَطْعَمَا) صِفَةٌ لِـ (قَرْيَةٍ) نَكِرَةٌ، لَا لِـ (أَهْلَ)، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِالظَّاهِرِ، كَذَا حَرَّرَهُ السُّبْكِيُّ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ سَأَلَهُ الصَّلَاحُ الصَّفَدِيُّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: أَسَيِّدَنَا قَاضِي الْقُضَاةِ وَمَنْ إِذَا *** بَدَا وَجْهُهُ اسْتَحْيَا لَهُ الْقَمَرَانِ وَمَنْ كَفُّهُ يَوْمَ النَّدَى وَيَرَاعُهُ *** عَلَى طِرْسِهِ بَحْرَانِ يَلْتَقِيَانِ وَمَنْ إِنْ دَجَتْ فِي الْمُشْكِلَاتِ مَسَائِلٌ *** جَلَاهَا بِفِكْرٍ دَائِمِ اللَّمَعَانِ رَأَيْتُ كِتَابَ اللَّهِ أَكْبَرُ مُعْجِزٍ *** لَأَفْضَلُ مَنْ يُهْدَى بِهِ الثَّقَلَانِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِعْجَازِ كَوْنُ اخْتِصَارِهِ *** بِإِيجَازِ أَلْفَاظٍ وَبَسْطِ مَعَانِ وَلَكِنَّنِي فِي الْكَهْفِ أَبْصَرْتُ آيَةً *** بِهَا الْفِكْرُ فِي طُولِ الزَّمَانِ عَنَانِي وَمَا هِيَ إِلَّا (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) فَقَدْ *** نَرَى اسْتَطْعَمَاهُمْ مِثْلَهُ بِبَيَانِ فَمَا الْحِكْمَةُ الْغَرَّاءُ فِي وَضْعِ ظَاهِرٍ *** مَكَانَ ضَمِيرٍ إِنَّ ذَاكَ لَشَانِ فَأَرْشِدْ عَلَى عَادَاتِ فَضْلِكَ حَيْرَتِي *** فَمَا لِي بِهَا عِنْدَ الْبَيَانِ يَدَانِ
تَنْبِيهٌ: إِعَادَةُ الظَّاهِرِ بِمَعْنَاهُ أَحْسَنُ مِنْ إِعَادَتِهِ بِلَفْظِهِ، كَمَا مَرَّ فِي آيَات: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الْأَعْرَاف: 170]، {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الْكَهْف: 30]، وَنَحْوِهَا. وَمِنْهُ: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الْبَقَرَة: 105]، فَإِنَّ إِنْزَالَ الْخَيْرِ مُنَاسِبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ (اللَّهِ)؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مُنَاسِبٌ لِلْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ دَائِرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْسَعُ. وَمِنْهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إِلَى قَوِلِه: {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الْأَنْعَام: 1]، وَإِعَادَتُهُ فِي جُمْلَةٍ أُخْرَى أَحْسَنُ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ لِانْفِصَالِهَا. وَبَعْضُ الطُّولِ أَحْسَنُ مِنَ الْإِضْمَارِ لِئَلَّا يَبْقَى الذِّهْنُ مُتَشَاغِلًا بِسَبَبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفُوتُهُ مَا شَرَعَ فِيهِ كَقَوْلِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الْأَنْعَام: 83]، بَعْدَ قَوْلِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} [الْأَنْعَام: 74].
مَعْنَاهُ وَهُوَ الْإِمْعَانُ: وَهُوَ خَتْمُ الْكَلَامِ بِمَا يُفِيدُ نُكْتَةً يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهَا. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ خَاصٌّ بِالشِّعْرِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذَلِكَ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 20، 21]، فَقَوْلُهُ: (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) إِيغَالٌ؛ لِأَنَّهُ يَتِمُّ الْمَعْنَى بِدُونِهِ؛ إِذِ الرَّسُولُ مُهْتَدٍ لَا مَحَالَةَ، لَكِنَّ فِيهِ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي الْحَثِّ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ. وَجَعَلَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ مِنْهُ: {وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النَّمْل: 80]، فَإِنَّ قَوْلَهُ: (إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى، مُبَالَغَةً فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الْمَائِدَة: 50]، زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى لِمَدْحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ لِلْيَهُودِ، وَأَنَّهُمْ بَعِيدُونَ عَنِ الْإِيقَانِ. {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذَّارِيَات: 23]، فَقَوْلُهُ: (مِثْلَ مَا) إِلَى آخِرِهِ.. إِيغَالٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَعْنَى لِتَحْقِيقِ هَذَا الْوَعْدِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ.
وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِجُمْلَةٍ عَقِبَ جُمْلَةٍ، وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، لِتَأْكِيدِ مَنْطُوقِهِ أَوْ مَفْهُومِهِ، لِيَظْهَرَ الْمَعْنَى لِمَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَتَقَرَّرَ عِنْدَ مَنْ فَهِمَهُ، نَحْو: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سَبَإٍ: 17]، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الْإِسْرَاء: 81]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الْأَنْبِيَاء: 34]، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185]، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 14].
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى بِكَلَامَيْنِ يُقَرِّرُ الْأَوَّلَ بِمَنْطُوقِهِ مَفْهُومَ الثَّانِي وَبِالْعَكْسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} إِلَى قَوْلِه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النُّور: 58]، فَمَنْطُوقُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْأَوْقَاتِ خَاصَّةً مُقَرِّرٌ لِمَفْهُومِ رَفْعِ الْجَنَاحِ فِيمَا عَدَاهَا وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التَّحْرِيم: 6]. قُلْتُ: وَهَذَا النَّوْعُ يُقَابِلُهُ فِي الْإِيجَازِ نَوْعُ الِاحْتِبَاكِ.
وَيُسَمَّى بِالِاحْتِرَاسِ؛ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي كَلَامٍ يُوهِمُ خِلَافَ الْمَقْصُودِ بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الْوَهْمَ، نَحْو: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الْمَائِدَة: 54]، فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى (أَذِلَّةٍ) لَتُوِهِّمَ أَنَّهُ لِضَعْفِهِمْ، فَدَفَعَهُ بِقَوْلِه: (أَعِزَّةٍ)، وَمِثْلُهُ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الْفَتْح: 29]، لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَشِدَّاءَ لَتُوِهِّمَ أَنَّهُ لِغِلَظِهِمْ. {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [طَه: 22]، {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النَّمْل: 18]، احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ نِسْبَةُ الظُّلْمِ إِلَى سُلَيْمَانَ. وَمِثْلُهُ: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْفَتْح: 25]، وَكَذَا: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1]، فَالْجُمْلَةُ الْوُسْطَى احْتِرَاسٌ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّ التَّكْذِيبَ مِمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: فَإِنْ قِيلَ: كُلٌّ مِنْ ذَلِكَ أَفَادَ مَعْنًى جَدِيدًا، فَلَا يَكُونُ إِطْنَابًا. قُلْنَا: هُوَ إِطْنَابٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ رَفْعِ تَوَهُّمِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَعْنًى فِي نَفْسِهِ.
وَهُوَ أَنْ يُؤْتَى فِي كَلَامٍ لَا يُوهِمُ غَيْرَ الْمُرَادِ بِفَضْلِهِ تُفِيدُ نُكْتَةً، كَالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الْإِنْسَان: 8]؛ أَيْ: مَعَ حُبِّ الطَّعَامِ؛ أَي: اشِتِهَائِهِ، فَإِنَّ الْإِطْعَامَ حِينَئِذٍ أَبْلَغُ وَأَكْثَرُ أَجْرًا، وَمِثْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [الْبَقَرَة: 177]، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ} [طَه: 112]، فَقَوْلُهُ: (وهُوَ مُؤْمِنٌ) تَتْمِيمٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى فَيَسْتَقْصِيهِ، فَيَأْتِي عَوَارِضَهُ وَلَوَازِمَهُ بَعْدَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ جَمِيعَ أَوْصَافِهِ الذَّاتِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهُ بَعْدَهُ فِيهِ مَقَالًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 266]، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ (جَنَّةٌ) لَكَانَ كَافِيًا، فَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا: (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ)، فَإِنَّ مُصَابَ صَاحِبِهَا بِهَا أَعْظَمُ، ثُمَّ زَادَ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) مُتَمِّمًا لِوَصْفِهَا بِذَلِكَ، ثُمَّ كَمُلَ وَصْفُهَا بَعْدَ التَّتْمِيمَيْنِ فَقَالَ: (لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، فَأَتَى بِكُلِّ مَا يَكُونُ فِي الْجِنَانِ لِيَشْتَدَّ الْأَسَفُ عَلَى إِفْسَادِهَا. ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ صَاحِبِهَا: (وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ)، ثُمَّ اسْتَقْصَى الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ بِمَا يُوجِبُ تَعْظِيمَ الْمُصَابِ، بِقَوْلِهِ بَعْدَ وَصْفِهِ بِالْكِبَر: (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ)، وَلَمْ يَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى وَصَفَ الذُّرِّيَّةَ بِـ (ضُعَفَاءُ). ثُمَّ ذَكَرَ اسْتِئْصَالَ الْجَنَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِهَذَا الْمُصَابِ غَيْرُهَا بِالْهَلَاكِ فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، حَيْثُ قَالَ: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ)، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِهِ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ سُرْعَةُ الْهَلَاكِ، فَقَالَ: (فِيهِ نَارٌ)، ثُمَّ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ ذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَ بِاحْتِرَاقِهَا، لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ النَّارُ ضَعِيفَةً لَا تَفِي بِاحْتِرَاقِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْأَنْهَارِ، وَرُطُوبَةِ الْأَشْجَارِ، فَاحْتَرَسَ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِقَوْلِه: (فَاحْتَرَقَتْ)، فَهَذَا أَحْسَنُ اسْتِقْصَاءٍ وَقَعَ فِي كَلَامٍ وَأَتَمَّهُ وَأَكْمَلَهُ. قَالَ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَع: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِقْصَاءِ وَالتَّتْمِيمِ وَالتَّكْمِيل: أَنَّ التَّتْمِيمَ يَرِدُ عَلَى الْمَعْنَى النَّاقِصِ لِيُتَمَّمَ، وَالتَّكْمِيلُ يَرِدُ عَلَى الْمَعْنَى التَّامِّ فَيُكَمِّلُ أَوْصَافَهُ، وَالِاسْتِقْصَاءُ يَرِدُ عَلَى الْمَعْنَى التَّامِّ الْكَامِلِ فَيَسْتَقْصِي لَوَازِمَهُ وَعَوَارِضَهُ وَأَوْصَافَهُ وَأَسْبَابَهُ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ مَا تَقَعُ الْخَوَاطِرُ عَلَيْهِ، فَلَا يَبْقَى لِأَحَدٍ فِيهِ مَسَاغٌ.
وَسَمَّاهُ قُدَامَةُ الْتِفَاتًا، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِجُمْلَةٍ أَوْ أَكْثَرَ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ، فِي أَثْنَاءِ كَلَامٍ أَوْ كَلَامَيْنِ اتَّصَلَا مَعْنًى، لِنُكْتَةِ غَيْرِ دَفْعِ الْإِيهَامِ؛ كَقَوْلِه: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النَّحْل: 57]، فَقَوْلُهُ: (سُبْحَانَهُ) اعْتِرَاضٌ لِتَنْزِيهِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الْبَنَاتِ، وَالشَّنَاعَةِ عَلَى جَاعِلِيهَا، وَقَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الْفَتْح: 27]. فَجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ اعْتِرَاضٌ لِلتَّبَرُّكِ. وَمِنْ وُقُوعِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ جُمْلَةٍ: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَة: 222، 223]، فَقَوْلُهُ: (نِسَاؤُكُمْ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِه: (فَأَتَوْهُنَّ)؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ لِلْحَثِّ عَلَى الطَّهَارَةِ وَتَجَنُّبِ الْأَدْبَارِ. وَقَوْلُهُ: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} إِلَى قَوْلِه: {وَقِيلَ بُعْدًا} [هُودٍ: 44]، فِيهِ اعْتِرَاضٌ بِثَلَاثِ جُمَلٍ، وَهِيَ: (وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)، قَالَ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ: وَنُكْتَتُهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَاقِعٌ بَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا مَحَالَةَ، وَلَوْ أَتَى بِهِ آخِرًا لَكَانَ الظَّاهِرُ تَأَخُّرَهُ، فَبِتَوَسُّطِهِ ظَهَرَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ، ثُمَّ فِيهِ اعْتِرَاضٌ، فَإِنَّ: (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) مُعْتَرِضٌ بَيْنَ (وَغِيضَ) وَ(وَاسْتَوَتْ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَحْصُلُ عَقِبَ الْغَيْضِ. وَقَوْلُهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} إِلَى قَوْلِه: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} [الرَّحْمَن: 46، 54]، فِيهِ اعْتِرَاضٌ بِسَبْعِ جُمَلٍ إِذَا أُعْرِبَ حَالًا مِنْهُ. وَمِنْ وُقُوعِ اعْتِرَاضٍ فِي اعْتِرَاضٍ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الْوَاقِعَة: 75- 77]، اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ بِقَوْلِه: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ) الْآيَةَ. وَبَيْنَ الْقَسَمِ وَصِفَتِهِ بِقَوْلِه: (لَوْ تَعْلَمُونَ) تَعْظِيمًا لِلْمُقْسَمِ بِهِ، وَتَحْقِيقًا لِإِجْلَالِهِ، وَإِعْلَامًا لَهُمْ بِأَنَّ لَهُ عَظَمَةً لَا يَعْلَمُونَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ فِي التِّبْيَانِ: وَوَجْهُ حُسْنِ الِاعْتِرَاضِ حُسْنُ الْإِفَادَةِ، مَعَ أَنَّ مَجِيئَهُ مَجِيءُ مَا لَا يُتَرَقَّبُ، فَيَكُونُ كَالْحَسَنَةِ تَأْتِيكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَحْتَسِبُ.
وَفَائِدَتُهُ التَّقْرِيرُ وَالْأَبْلَغِيَّةُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ أَبْعَثُ عَلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ مِنْ غَيْرِهَا، وَغَالِبُ التَّعْلِيلِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِ سُؤَالٍ اقْتَضَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى، وَحُرُوفُهُ: اللَّامُ، وَإِنَّ، وَأَنْ، وَإِذْ، وَالْبَاءُ، وَكَيْ، وَمِنْ، وَلَعَلَّ، وَقَدْ مَضَتْ أَمْثِلَتُهَا فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ. وَمِمَّا يَقْتَضِي التَّعْلِيلَ لَفْظُ (الْحِكْمَةِ) كَقَوْلِه: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [الْقَمَر: 5]، وَذِكْرُ الْغَايَةِ مِنَ الْخَلْقِ، نَحْوُ قَوْلِه: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [الْبَقَرَة: 22]، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النَّبَإ: 6، 7].
اعْلَمْ أَنَّ الْحُذَّاقَ مِنَ النُّحَاةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَهْلِ الْبَيَانِ قَاطِبَةً عَلَى انْحِصَارِ الْكَلَامِ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قِسْمٌ ثَالِثٌ. وَادَّعَى قَوْمٌ: أَنَّ أَقْسَامَ الْكَلَامِ عَشَرَةٌ: نِدَاءٌ، وَمَسْأَلَةٌ، وَأَمْرٌ، وَتَشَفُّعٌ، وَتَعَجُّبٌ، وَقَسَمٌ، وَشَرْطٌ، وَوَضْعٌ، وَشَكٌّ، وَاسْتِفْهَامٌ. وَقِيلَ: تِسْعَةٌ بِإِسْقَاطِ الِاسْتِفْهَامِ لِدُخُولِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَقِيلَ: ثَمَانِيَةٌ، بِإِسْقَاطِ التَّشَفُّعِ لِدُخُولِهِ فِيهَا. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ بِإِسْقَاطِ الشَّكِّ لِأَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْخَبَرِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ سِتَّةٌ: خَبَرٌ، وَاسْتِخْبَارٌ، وَأَمْرٌ، وَنَهْيٌ، وَنِدَاءٌ، وَتَمَنٍّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَمْسَةٌ: خَبَرٌ، وَأَمْرٌ، وَتَصْرِيحٌ، وَطَلَبٌ، وَنِدَاءٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: أَرْبَعَةٌ: خَبَرٌ، وَاسْتِخْبَارٌ، وَطَلَبٌ، وَنِدَاءٌ. وَقَالَ كَثِيرُونَ: ثَلَاثَةٌ: خَبَرٌ، وَطَلَبٌ، وَإِنْشَاءٌ. قَالُوا: لِأَنَّ الْكَلَامَ إِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ أَوْ لَا: الْأَوَّلُ الْخَبَرُ، وَالثَّانِي: إِنِ اقْتَرَنَ مَعْنَاهُ بِلَفْظِهِ فَهُوَ الْإِنْشَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بَلْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فَهُوَ الطَّلَبُ. وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى دُخُولِ الطَّلَبِ فِي الْإِنْشَاءِ، وَأَنَّ مَعْنَى (اضْرِبْ) مَثَلًا- وَهُوَ طَلَبُ الضَّرْبِ- مُقْتَرِنٌ بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا الضَّرْبُ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الطَّلَبِ لَا نَفْسُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ الْخَبَرِ فَقِيلَ: لَا يُحَدُّ لِعُسْرِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِنْشَاءِ وَالْخَبَرِ ضَرُورَةً، وَرَجَّحَهُ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى حَدِّهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْخَبَرُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ. فَأَوْرِدْ عَلَيْهِ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا صَادِقًا، فَأَجَابَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ يَصِحُّ دُخُولُهُ لُغَةً. وَقِيلَ: الَّذِي يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، هُوَ سَالِمٌ مِنَ الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ فَأُورِدَ عَلَيْهِ، نَحْوُ: (قُمْ) فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ، وَالطَّلَبَ مَنْسُوبٌ. وَقِيلَ: الْكَلَامُ الْمُفِيدُ بِنَفْسِهِ إِضَافَةَ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ إِلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا. وَقِيلَ: الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي بِصَرِيحِهِ نِسْبَةَ مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْإِنْشَاءُ مَا يَحْصُلُ مَدْلُولُهُ فِي الْخَارِجِ بِالْكَلَامِ، وَالْخَبَرُ خِلَافُهُ. وَقَالَ بَعْضُ مَنْ جَعَلَ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةً: الْكَلَامُ إِنْ أَفَادَ بِالْوَضْعِ طَلَبًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَلَبِ ذِكْرِ الْمَاهِيَّةَ أَوْ تَحْصِيلِهَا أَوِ الْكَفِّ عَنْهَا، وَالْأَوَّلُ الِاسْتِفْهَامُ، وَالثَّانِي الْأَمْرُ، وَالثَّالِثُ النَّهْيُ، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ طَلَبًا بِالْوَضْعِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ سُمِّيَ تَنْبِيهًا وَإِنْشَاءً؛ لِأَنَّكَ نَبَّهْتَ بِهِ عَنْ مَقْصُودِكَ وَأَنْشَأْتَهُ؛ أَي: ابِتَكَرْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ، سَوَاءٌ أَفَادَ طَلَبًا بِاللَّازِمِ كَالتَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالنِّدَاءِ وَالْقَسَمِ أَمْ لَا: كَأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنِ احْتَمَلَهُمَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فَهُوَ خَبَرٌ.
الْقَصْدُ بِالْخَبَرِ إِفَادَةُ الْمُخَاطَبِ، وَقَدْ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْر: نَحْو: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [الْبَقَرَة: 233]، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، وَبِمَعْنَى النَّهْي: نَحْو: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79]، وَبِمَعْنَى الدُّعَاء: نَحْو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الْفَاتِحَة: 50]؛ أَيْ: أَعِنَّا. وَمِنْهُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [الْمَسَد: 1]، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [الْمَائِدَة: 24]. وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْمٌ: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النِّسَاء: 90]، قَالُوا: هُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بِضِيقِ صُدُورِهِمْ عَنْ قِتَالِ أَحَدٍ. وَنَازَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْخَبَرَ يَرِدُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ. قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ} [الْبَقَرَة: 197]، لَيْسَ نَفْيًا لِوُجُودِ الرَّفَثِ، بَلْ نَفْيٌ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ، فَإِنَّ الرَّفَثَ يُوجَدُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ، وَأَخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ النَّفْيُ إِلَى وُجُودِهِ مَشْرُوعًا لَا إِلَى وُجُودِهِ مَحْسُوسًا، كَقَوْلِه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [الْبَقَرَة: 228]، وَمَعْنَاهُ مَشْرُوعًا لَا مَحْسُوسًا، فَإِنَّا نَجِدُ مُطَلَّقَاتٍ لَا يَتَرَبَّصْنَ، فَعَادَ النَّفْيُ إِلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَا إِلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ. وَكَذَا: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الْوَاقِعَة: 79]؛ أَيْ: لَا يَمَسُّهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ الْمَسُّ فَعَلَى خِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ. قَالَ: وَهَذِهِ الدَّفِينَةُ الَّتِي فَاتَتِ الْعُلَمَاءَ، فَقَالُوا: إِنَّ الْخَبَرَ يَكُونُ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَمَا وُجِدَ ذَلِكَ قَطُّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجِدَ، فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً، وَيَتَبَايَنَانِ وَضْعًا. انْتَهَى.
مِنْ أَقْسَامِهِ عَلَى الْأَصَحِّ التَّعَجُّبُ، قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَهُوَ تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى أَضِرَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ الصَّائِغ: اسْتِعْظَامُ صِفَةٍ خَرَجَ بِهَا الْمُتَعَجَّبُ مِنْهُ عَنْ نَظَائِرِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى التَّعَجُّبِ تَعْظِيمُ الْأَمْرِ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ؛ لِأَنَّ التَّعَجُّبَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ نَظَائِرِهِ وَأَشْكَالِهِ. وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ: الْمَطْلُوبُ فِي التَّعَجُّبِ الْإِبْهَامُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ أَنْ يَتَعَجَّبُوا مِمَّا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ، فَكُلَّمَا اسْتَبْهَمَ السَّبَبُ كَانَ التَّعَجُّبُ أَحْسَنَ. قَالَ: وَأَصْلُ التَّعَجُّبِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الْخَفِيِّ سَبَبُهُ، وَالصِّيغَةُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ تُسَمَّى تَعَجُّبًا مَجَازًا. قَالَ: وَمِنْ أَجْلِ الْإِبْهَامِ لَمْ تَعْمَلْ نَعَمْ إِلَّا فِي الْجِنْسِ مِنْ أَجْلِ التَّفْخِيمِ لِيَقَعَ التَّفْسِيرُ عَلَى نَحْوِ التَّفْخِيمِ بِالْإِضْمَارِ قَبْلَ الذِّكْرِ. ثُمَّ قَدْ وَضَعُوا لِلتَّعَجُّبِ صِيَغًا مَنْ لَفْظِهِ، وَهِيَ: (مَا أَفْعَلَ)، وَ(أَفْعِلْ بِهِ)، وَصِيَغًا مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، نَحْوَ: (كَبُرَ) كَقَوْلِه: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الْكَهْف: 5]، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [الصَّفّ: 3]، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [الْبَقَرَة: 28].
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: إِذَا وَرَدَ التَّعَجُّبُ مِنَ اللَّهِ صُرِفَ إِلَى الْمُخَاطَبِ كَقَوْلِه: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [الْبَقَرَة: 175]؛ أَيْ: هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُتَعَجَّبَ مِنْهُمْ؛ وَإِنَّمَا لَا يُوصَفُ تَعَالَى بِالتَّعَجُّبِ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعْظَامٌ يَصْحَبُهُ الْجَهْلُ، وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا تُعَبِّرُ جَمَاعَةٌ بِالتَّعَجُّبِ بَدَلَهُ؛ أَيْ أَنَّهُ تَعْجِيبٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُخَاطِبِينَ. وَنَظِيرُ هَذَا مَجِيءُ الدُّعَاءِ وَالتَّرَجِّي مِنْهُ تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَفْهَمُهُ الْعَرَبُ؛ أَيْ: هَؤُلَاءِ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: عِنْدَكُمْ هَذَا؛ وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِه: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طَه: 44]، الْمَعْنَى: اذْهَبَا عَلَى رَجَائِكُمَا وَطَمَعِكُمَا، وَفِي قَوْلِه: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 1]، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 10]، لَا تَقُلْ هَذَا دُعَاءٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ بِذَلِكَ قَبِيحٌ، وَلَكِنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِهِمْ، وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَعَلَى مَا يَعْنُونَ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ؛ أَيْ: هَؤُلَاءِ مِمَّنْ وَجَبَ الْقَوْلُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يُقَالُ لِصَاحِبِ الشُّرُورِ وَالْهَلَكَةِ، فَقِيلَ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ دَخَلَ فِي الْهَلَكَةِ.
نَحْو: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فُصِّلَتْ: 53]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ} [الشُّعَرَاء: 277]، وَفِي كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ مَا يُوهِمُ أَنَّهُ إِنْشَاءٌ.
بَلْ هُوَ شَطْرُ الْكَلَامِ كُلِّهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَحْدِ أَنَّ النَّافِيَ إِنْ كَانَ صَادِقًا سُمِّيَ كَلَامُهُ نَفْيًا، وَلَا يُسَمَّى جَحْدًا، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا سُمِّي جَحْدًا وَنَفْيًا أَيْضًا، فَكَلُّ جَحْدٍ نَفْيٌ، وَلَيْسَ كُلُّ نَفْيٍ جَحْدًا. ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ وَابْنُ الشَّجَرِيِّ وَغَيْرُهُما. مِثَالُ النَّفْي: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الْأَحْزَاب: 40]. وَمِثَالُ الْجَحْدِ نَفْيُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ آيَاتِ مُوسَى. قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النَّمْل: 13، 14]. وَأَدَوَاتُ النَّفْي: لَا، وَلَاتَ، وَلَيْسَ، وَمَا، وَإِنْ، وَلَمْ، وَلَمَّا. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَعَانِيهَا وَمَا افْتَرَقَتْ فِيهِ فِي نَوْعِ الْأَدَوَاتِ. وَنُورِدُ هُنَا فَائِدَةً زَائِدَةً، قَالَ الْخُوَيِّيُّ: أَصْلُ أَدَوَاتِ النَّفْيِ (لَا) وَ(مَا)؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إِمَّا فِي الْمَاضِي، وَإِمَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالِاسْتِقْبَالُ أَكْثَرُ مِنَ الْمَاضِي أَبَدًا، وَ(لَا) أَخَفَّ مِنْ (مَا)، فَوَضَعُوا الْأَخَفَّ لِلْأَكْثَرِ. ثُمَّ إِنَّ النَّفْيَ فِي الْمَاضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيًا وَاحِدًا مُسْتَمِرًّا، أَوْ نَفْيًا فِيهِ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ، وَكَذَلِكَ النَّفْيُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَصَارَ النَّفْيُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَاخْتَارُوا لَهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ: مَا، وَلَمْ، وَلَنْ، وَلَا. وَأَمَّا إِنْ وَلَمَّا فَلَيْسَا بِأَصْلَيْنِ، فَمَا وَلَا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ مُتَقَابِلَانِ، وَلَمْ كَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ لَا وَمَا؛ لِأَنَّ لَمْ نَفْيٌ لِلِاسْتِقْبَالِ لَفْظًا وَالْمُضِيِّ مَعْنًى، فَأَخَذَ اللَّامَ مِنْ (لَا) الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمِيمِ مِنْ (مَا) الَّتِي هِيَ لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا إِشَارَةً إِلَى أَنَّ فِي (لَمْ) إِشَارَةً إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، وَقَدَّمَ اللَّامَ عَلَى الْمِيمِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ (لَا) هِيَ أَصْلُ النَّفْيِ؛ وَلِهَذَا يُنْفَى بِهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ فيُقَالُ: لَمْ يَفْعَلْ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو. وَأَمَّا (لَمَّا) فَتَرْكِيبٌ بَعْدَ تَرْكِيبٍ، كَأَنَّهُ قَالَ: (لَمْ) وَ(مَا) لِتَوْكِيدِ مَعْنَى النَّفْيِ فِي الْمَاضِي، وَتُفِيدُ الِاسْتِقْبَالَ أَيْضًا، وَلِهَذَا تُفِيدُ (لَمَّا) الِاسْتَمْرَارَ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ النَّفْيِ عَنِ الشَّيْءِ صِحَّةُ اتِّصَالِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الْأَنْعَام: 132]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 64]، {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [الْبَقَرَة: 255]، وَنَظَائِرُهُ. وَالصَّوَابُ أَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ عَقْلًا، وَقَدْ يَكُونُ لِكَوْنِهِ لَا يَقَعُ مِنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ. الثَّانِي: نَفْيُ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَة: قَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلصِّفَةِ دُونَ الذَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا لِلذَّاتِ أَيْضًا. مِنَ الْأَوَّل: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الْأَنْبِيَاء: 8]؛ أَيْ: بَلْ هُمْ جَسَدٌ يَأْكُلُونَهُ. وَمِنَ الثَّانِي: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [الْبَقَرَة: 273]؛ أَيْ: لَا سُؤَالَ لَهُمْ أَصْلًا، فَلَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ إِلْحَافٌ. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غَافِرٍ: 18]؛ أَيْ: لَا شَفِيعَ لَهُمْ أَصْلًا. {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [الْمُدَّثِّر: 48]؛ أَيْ: لَا شَافِعِينَ لَهُمْ فَتَنْفَعُهُمْ شَفَاعَتُهُمْ، بِدَلِيل: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشُّعَرَاء: 100]. وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ عِنْدَ أَهْلِ الْبَدِيعِ نَفْيَ الشَّيْءِ بِإِيجَابِهِ. وَعِبَارَةُ ابْنِ رَشِيقٍ فِي تَفْسِيرِه: أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ ظَاهِرُهُ إِيجَابُ الشَّيْءِ وَبَاطِنُهُ نَفْيُهُ، بِأَنْ يَنْفِيَ مَا هُوَ مِنْ سَبَبِهِ كَوَصْفِهِ، وَهُوَ الْمَنْفِيُّ فِي الْبَاطِنِ. وَعِبَارَةُ غَيْرِه: أَنْ يُنْفَى الشَّيْءُ مُقَيَّدًا، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ مُطْلَقًا مُبَالَغَةً فِي النَّفْيِ وَتَأْكِيدًا لَهُ. وَمِنْهُ: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117]، فَإِنَّ الْإِلَهَ مَعَ اللَّهِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ. {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الْبَقَرَة: 61]، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ حَقٍّ. {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرَّعْد: 2]، فَإِنَّهَا لَا عَمَدَ لَهَا أَصْلًا. الثَّالِثُ: قَدْ يُنْفَى الشَّيْءُ رَأْسًا لِعَدَمِ كَمَالِ وَصْفِهِ أَوِ انْتِفَاءِ ثَمَرَتِهِ، كَقَوْلِهِ فِي صِفَةِ أَهْلِ النَّار: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} [الْأَعْلَى: 13]، فَنَفَى عَنْهُ الْمَوْتَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْتٍ صَرِيحٍ، وَنَفَى عَنْهُ الْحَيَاةَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَيَاةٍ طَيِّبَةٍ وَلَا نَافِعَةٍ. {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الْأَعْرَاف: 198]، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [الْقِيَامَة: 23]، لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِبْصَارَ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ بِإِقْبَالِهَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَتْ تُبْصِرُ شَيْئًا. {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَة: 102]، فَإِنَّهُ وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْعِلْمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ الْقَسَمِي، ثُمَّ نَفَاهُ آخِرًا عَنْهُمْ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ. قَالَهُ السَّكَّاكِيُّ. الرَّابِعُ: قَالُوا: الْمَجَازُ يَصِحُّ نَفْيُهُ، بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ، وَأُشْكِلَ عَلَى ذَلِكَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الْأَنْفَال: 17]، فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ فِيهِ الْحَقِيقَةُ. وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ هُنَا الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ؛ وَهُوَ وُصُولُهُ إِلَى الْكَفَّارِ، فَالْوَارِدُ عَلَيْهِ النَّفْيُ هُنَا مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا رَمَيْتَ خَلْقًا إِذْ رَمَيْتَ كَسْبًا، أَوْ مَا رَمَيْتَ انْتِهَاءً إِذْ رَمَيْتَ ابْتِدَاءً. الْخَامِسُ: نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْقُدْرَةِ وَالْإِمْكَانِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوُقُوعُ بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ. مِنَ الْأَوَّل: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50]، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} [الْأَنْبِيَاء: 40]، {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الْكَهْف: 97]. وَمِنَ الثَّانِي: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [الْمَائِدَة: 112]، عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ، أَيْ: هَلْ يَفْعَلُ أَوْ هَلْ تُجِيبُنَا إِلَى أَنْ تَسْأَلَ؟ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِنْزَالِ، وَأَنَّ عِيسَى قَادِرٌ عَلَى السُّؤَالِ. وَمِنَ الثَّالِث: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الْكَهْف: 67].
وَثُبُوتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَثُبُوتُ الْخَاصِّ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْعَامِّ، وَنَفْيُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَةَ الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظِ تُوجِبُ الِالْتِذَاذَ بِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ نَفْيُ الْعَامِّ أَحْسَنَ مِنْ نَفْيِ الْخَاصِّ، وَإِثْبَاتُ الْخَاصِّ أَحْسَنَ مِنْ إِثْبَاتِ الْعَامِّ. فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِه: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [الْبَقَرَة: 17]، لَمْ يَقُلْ بِضَوْئِهِمْ بَعْدَ قَوْلِه: (أَضَاءَتْ)؛ لِأَنَّ النُّورَ أَعَمُّ مِنَ الضَّوْءِ؛ إِذْ يُقَالُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ الضَّوْءُ عَلَى النُّورِ الْكَثِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يُونُسَ: 5]، فَفِي الضَّوْءِ دَلَالَةٌ عَلَى النُّورِ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْهُ، فَعَدَمُهُ يُوجِبُ عَدَمَ الضَّوْءِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَالْقَصْدُ إِزَالَةُ النُّورِ عَنْهُمْ أَصْلًا؛ وَلِذَا قَالَ عَقِبَهُ: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ) وَمِنْهُ: {لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ} [الْأَعْرَاف: 61]، وَلَمْ يَقُلْ ضَلَالٌ، كَمَا قَالُوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ} [الْأَعْرَاف: 60]؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْهُ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي نَفْيِ الضَّلَالِ، وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ نَفْيَ الْوَاحِدِ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْجِنْسِ الْبَتَّةَ، وَبِأَنَّ نَفْيَ الْأَدْنَى يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْأَعْلَى. وَالثَّانِي كَقَوْلِه: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آلِ عِمْرَانَ: 133]، وَلَمْ يَقُلْ: (طُولُهَا)؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ أَخَصُّ؛ إِذْ كَلُّ مَا لَهُ عَرْضٌ فَلَهُ طُولٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ نَفْيَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ أَصْلِ الْفِعْلِ. وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَى هَذَا آيَتَان: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فُصِّلَتْ: 46]، وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مَرْيَمَ: 46]. وَأُجِيبُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى بِأَجْوِبَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ (ظَلَامًا) وَإِنْ كَانَ لِلْكَثْرَةِ لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَبِيدِ الَّذِي هُوَ جَمْعُ كَثْرَةٍ، وَيُرَشِّحُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [الْمَائِدَة: 109]، فَقَابَلَ صِيغَةَ (فَعَّالٍ) بِالْجَمْعِ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الزُّمَر: 46]، فَقَابَلَ صِيغَةَ (فَاعِلٍ) الدَّالَّةَ عَلَى أَصْلِ الْفِعْلِ بِالْوَاحِدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ نَفَى الظُّلْمَ الْكَثِيرَ لِيَنْتَفِيَ الْقَلِيلُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّ الَّذِي يَظْلِمُ إِنَّمَا يَظْلِمُ لِانْتِفَاعِهِ بِالظُّلْمِ، فَإِذَا تَرَكَ الْكَثِيرَ مَعَ زِيَادَةِ نَفْعِهِ فَلِأَنْ يَتْرُكَ الْقَلِيلَ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَلَى النِّسْبَةِ؛ أَيْ: بِذِي ظُلْمٍ، حَكَاهُ ابْنُ مَالِكٍ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى (فَاعِلٍ) لَا كَثْرَةَ فِيهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ أَقَلَّ الْقَلِيلِ لَوْ وَرَدَ مِنْهُ تَعَالَى لَكَانَ كَثِيرًا، كَمَا يُقَالُ: زَلَّةُ الْعَالِمِ كَبِيرَةٌ. السَّادِسُ: أَنَّهُ أَرَادَ لَيْسَ بِظَالِمٍ، لَيْسَ بِظَالِمٍ، لَيْسَ بِظَالِمٍ، تَأْكِيدًا لِلنَّفْيِ فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِلَيَسَ بِظَلَّامٍ. السَّابِعُ: أَنَّهُ وَرَدَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ: (ظَلَّامٌ)، وَالتَّكْرَارُ إِذَا وَرَدَ جَوَابًا لِكَلَامٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَفْهُومٌ. الثَّامِنُ: أَنَّ صِيغَةَ الْمُبَالَغَةِ وَغَيْرَهَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَجَرَى النَّفْيُ عَلَى ذَلِكَ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ قَصَدَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّ، ثُمَّ ظَلَّامًا لِلْعَبِيدِ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ. وَيُجَابُ عَنِ الثَّانِيَةِ بِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ. وَبِعَاشِرٍ: وَهُوَ مُنَاسِبَةُ رُءُوسِ الْآيِ.
قَالَ صَاحِبُ الْيَاقُوتَة: قَالَ ثَعْلَبٌ وَالْمُبَرِّدُ: الْعَرَبُ إِذَا جَاءَتْ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بِجَحْدَيْنِ كَانَ الْكَلَامُ إِخْبَارًا، نَحْو: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الْأَنْبِيَاء: 8]، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَإِذَا كَانَ الْجَحْدُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامٍ كَانَ جَحْدًا حَقِيقِيًّا، نَحْوُ: (مَا زَيْدٌ بِخَارِجٍ)، وَإِذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدَانِ كَانَ أَحَدُهُمَا زَائِدًا، وَعَلَيْه: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الْأَحْقَاف: 26]، فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ.
وَهُوَ طَلَبُ الْفَهْمِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِخْبَارِ. وَقِيلَ: الِاسْتِخْبَارُ مَا سَبَقَ أَوَّلًا، وَلَمْ يُفْهَمْ حَقَّ الْفَهْمِ، فَإِذَا سَأَلْتَ عَنْهُ ثَانِيًا كَانَ اسْتِفْهَامًا، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ، وَأَدَوَاتُهُ: الْهَمْزَةُ، وَهَلْ، وَمَا، وَمَنْ، وَأَيُّ، وَكَمْ، وَكَيْفَ، وَأَيْنَ، وَأَنَّى، وَمَتَى، وَأَيَّانَ. وَمَرَّتْ فِي الْأَدَوَاتِ. وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ فِي الْمِصْبَاح: وَمَا عَدَا الْهَمْزَةَ نَائِبٌ عَنْهَا، وَلِكَوْنِهِ طَلَبَ ارْتِسَامِ صُورَةِ مَا فِي الْخَارِجِ فِي الذِّهْنِ، لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً إِلَّا إِذَا صَدَرَ مِنْ شَاكٍّ مُصَدِّقٍ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ، فَإِنَّ غَيْرَ الشَّاكِّ إِذَا اسْتَفْهَمَ يَلْزَمُ مِنْهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِذَا لَمْ يُصَدِّقْ بِإِمْكَانِ الْإِعْلَامِ انْتَفَتْ عَنْهُ فَائِدَةُ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّة: وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى لَفْظِ الِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي خِطَابِ اللَّهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيُ حَاصِلٌ. وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الِاسْتِفْهَامِ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الصَّائِغِ كِتَابًا سَمَّاهُ رَوْضُ الْأَفْهَامِ فِي أَقْسَامِ الِاسْتِفْهَامِ قَالَ فِيه: قَدْ تَوَسَّعَتِ الْعَرَبُ فَأَخْرَجَتِ الِاسْتِفْهَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ لَمَعَانٍ، أَوْ أَشْرَبَتْهُ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَلَا يُخْتَصُّ التَّجَوُّزُ فِي ذَلِكَ بِالْهَمْزَةِ، خِلَافًا لِلصَّفَارِ. الْأَوَّلُ: الْإِنْكَارُ: وَالْمَعْنَى فِيهِ عَلَى النَّفْيِ وَمَا بَعْدَهُ مَنْفِيٌّ؛ وَلِذَلِكَ تَصْحَبُهُ (إِلَّا) كَقَوْلِه: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الْأَحْقَاف: 35]. {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سَبَإٍ: 17]، وَعَطَفَ عَلَى الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِه: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الرُّوم: 29]؛ أَيْ: لَا يَهْدِي، وَمِنْهُ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشُّعَرَاء: 111]، {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [الْمُؤْمِنُونَ: 47]؛ أَيْ: لَا نُؤْمِنُ {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطُّور: 39]، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النَّجْم: 21]؛ أَيْ: لَا يَكُونُ هَذَا. {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزُّخْرُف: 19]؛ أَيْ: مَا شَهِدُوا ذَلِكَ. وَكَثِيرًا مَا يَصْحَبُهُ التَّكْذِيبُ، وَهُوَ فِي الْمَاضِي بِمَعْنَى لَمْ يَكُنْ، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى لَا يَكُونُ، نَحْو: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الْإِسْرَاء: 40]؛ أَيْ: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هُودٍ: 28]؛ أَيْ: لَا يَكُونُ هَذَا الْإِلْزَامِ. الثَّانِي: التَّوْبِيخُ: وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْكَارِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ إِنْكَارُ إِبْطَالٍ، وَهَذَا إِنْكَارُ تَوْبِيخٍ، وَالْمَعْنَى عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهُ وَاقِعٌ جَدِيرٌ بِأَنْ يُنْفَى، فَالنَّفْيُ هُنَا غَيْرُ قَصْدِيٍّ وَالْإِثْبَاتُ قَصْدِيٌّ، عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّقْرِيعِ أَيْضًا، نَحْو: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طَه: 93]، {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصَّافَّات: 95]، {أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصَّافَّات: 125]، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ التَّوْبِيخُ فِي أَمْرٍ ثَابِتٍ، وَوُبِّخَ عَلَى فِعْلِهِ كَمَا ذُكِرَ، وَيَقَعُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ كَقَوْلِه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فَاطِرٍ: 37]، {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النِّسَاء: 97]. الثَّالِثُ: التَّقْرِيرُ: وَهُوَ حَمْلُ الْمُخَاطَبِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَمْرٍ قَدِ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَلَا يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ بِـ (هَلْ) كَمَا يُسْتَعْمَلُ بِغَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ. وَقَالَ الْكِنْدِيُّ: ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ} [الشُّعَرَاء: 72، 73]، إِلَى أَنَّ (هَلْ) تُشَارِكُ الْهَمْزَةَ فِي مَعْنَى التَّقْرِيرِ أَوِ التَّوْبِيخِ، إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ أَبَا عَلِيٍّ أَبَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْذُورٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْكَارِ. وَنَقَلَ أَبُو حَيَّانَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّ اسْتِفْهَامَ التَّقْرِيرِ لَا يَكُونُ بِـ (هَلْ) إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْهَمْزَةُ، ثُمَّ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ (هَلْ) تَأْتِي تَقْرِيرًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الْفَجْر: 5]، وَالْكَلَامُ مَعَ التَّقْرِيرِ مُوجِبٌ، وَلِذَلِكَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْمُوجِبِ، وَيُعْطَفُ عَلَى صَرِيحِ الْمُوجِبِ. فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشَّرْح: 1، 2]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضُّحَى: 6، 7]، {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ} [الْفِيل: 2، 3]. وَالثَّانِي: نَحْو: {أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا} [النَّمْل: 84]، عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْجُرْجَانِيُّ مِنْ جَعْلِهَا مِثْلَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْل: 14]. وَحَقِيقَةُ اسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِ أَنَّهُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، وَالْإِنْكَارُ نَفْيٌ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَى النَّفْيِ، وَنَفْيُ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزُّمَر: 36]، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الْأَعْرَاف: 172]، وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْبَقَرَة: 106]. الرَّابِعُ: التَّعَجُّبُ أَوِ التَّعْجِيبُ: نَحْو: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [الْبَقَرَة: 28]، {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النَّمْل: 20]، وَقَدِ اجْتَمَعَ هَذَا الْقِسْمُ وَسَابِقَاهُ فِي قَوْلِه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [الْبَقَرَة: 44]، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ مَعَ التَّوْبِيخِ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ حَالِهِمْ. وَيُحْتَمَلُ التَّعَجُّبُ وَالِاسْتِفْهَامُ الْحَقِيقِيُّ: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} [الْبَقَرَة: 142]. الْخَامِسُ: الْعِتَابُ: كَقَوْلِه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الْحَدِيد: 16]، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ عُوتِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ. أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ. وَمِنَ أَلْطَفِهِ مَا عَاتَبَ اللَّهُ بِهِ خَيْرَ خَلْقِهِ بِقَوْلِه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التَّوْبَة: 43]، وَلَمْ يَتَأَدَّبِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَدَبِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى عَادَتِهِ فِي سُوءِ الْأَدَبِ. السَّادِسُ: التَّذْكِيرُ: وَفِيهِ نَوْعُ اخْتِصَارٍ، كَقَوْلِه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا} [يس: 60]، {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الْبَقَرَة: 33]، {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يُوسُفَ: 89]. السَّابِعُ: الِافْتِخَارُ: نَحْو: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزُّخْرُف: 51]. الثَّامِنُ: التَّفْخِيمُ: نَحْو: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الْكَهْف: 49]. التَّاسِعُ: التَّهْوِيلُ وَالتَّخْوِيفُ: نَحْو: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ}، {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ}. الْعَاشِرُ: عَكْسُهُ؛ وَهُوَ التَّسْهِيلُ وَالتَّخْفِيفُ، نَحْو: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا} [النِّسَاء: 39]. الْحَادِي عَشَرَ: التَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ، نَحْو: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [الْمُرْسَلَات: 16]. الثَّانِي عَشَرَ: التَّكْثِيرُ: نَحْو: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الْأَعْرَاف: 4]. الثَّالِثَ عَشَرَ: التَّسْوِيَةُ؛ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ الدَّاخِلُ عَلَى جُمْلَةٍ يَصِحُّ حُلُولُ الْمَصْدَرِ مَحَلَّهَا، نَحْو: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [الْبَقَرَة: 6]. الرَّابِعَ عَشَرَ: الْأَمْرُ: نَحْو: {أَأَسْلَمْتُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 20]؛ أَيْ: أَسْلَمُوا {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [الْمَائِدَة: 91]؛ أَي: انِتَهَوْا. {أَتَصْبِرُونَ} [الْفُرْقَان: 20]؛ أَيْ: اصْبِرُوا. الْخَامِسَ عَشَرَ: التَّنْبِيهُ؛ وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَمْرِ، نَحْو: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الْفُرْقَان: 45]؛ أَي: انِظُرْ. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} [الْحَجّ: 63]، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَنْ سِيبَوَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ رَفَعَ الْفِعْلَ فِي جَوَابِهِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلُهُ: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التَّكْوِير: 26]، لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الضَّلَالِ، وَكَذَا: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [الْبَقَرَة: 130]. السَّادِسَ عَشَرَ: التَّرْغِيبُ، نَحْو: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الْبَقَرَة: 245]، {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصَّفّ: 10]. السَّابِعَ عَشَرَ: النَّهْيُ: نَحْو: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التَّوْبَة: 13]، بِدَلِيل: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [الْمَائِدَة: 44]، {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الِانْفِطَار: 6]؛ أَيْ: لَا تَغْتَرَّ. الثَّامِنَ عَشَرَ: الدُّعَاءُ؛ وَهُوَ كَالنَّهْيِ إِلَّا أَنَّهُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، نَحْو: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} [الْأَعْرَاف: 155]؛ أَيْ: لَا تُهْلِكْنَا. التَّاسِعَ عَشَرَ: الِاسْتِرْشَادُ: نَحْو: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [الْبَقَرَة: 30]. الْعِشْرُونَ: التَّمَنِّي، نَحْو: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} [الْأَعْرَاف: 53]. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِبْطَاءُ: نَحْو: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [الْبَقَرَة: 214]. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: الْعَرْضُ {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النُّور: 22]. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: التَّحْضِيضُ: نَحْو: {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التَّوْبَة: 13]. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: التَّجَاهُلُ: نَحْو: {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8]. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: التَّعْظِيمُ، نَحْو: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الْبَقَرَة: 255]. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: التَّحْقِيرُ: نَحْو: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الْأَنْبِيَاء: 36]، {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الْفُرْقَان: 41]، وَيَحْتَمِلُهُ وَمَا قَبْلَهُ قِرَاءَةُ (مَنْ فِرْعَوْنُ) [الدُّخَان: 31]. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: الِاكْتِفَاءُ: نَحْو: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزُّمَر: 60]. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: الِاسْتِبْعَادُ: نَحْو: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الْفَجْر: 23]. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: الْإِينَاسُ: نَحْو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طَه: 17]. الثَّلَاثُونَ: التَّهَكُّمُ وَالِاسْتِهْزَاءُ، نَحْو: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هُودٍ: 87]، {أَلَا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصَّافَّات: 91، 92]. الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: التَّأْكِيدُ لِمَا سَبَقَ مِنْ مَعْنَى أَدَاةِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَهُ كَقَوْلِه: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزُّمَر: 19]، قَالَ الْمُوَفَّقُ عَبْدُ اللَّطِيفِ الْبَغْدَادِيُّ: أَيْ: مَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَإِنَّكَ لَا تُنْقِذُهُ، فَمَنْ لِلشَّرْطِ، وَالْفَاءُ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَالْهَمْزَةُ فِي (أَفَأَنْتَ) دَخَلَتْ مُعَادَةً مُؤَكِّدَةً لِطُولِ الْكَلَامِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ الْأُولَى، كُرِّرَتْ لِتَوْكِيدِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ. الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: الْإِخْبَارُ: نَحْو: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا} [النُّور: 50]، {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الْإِنْسَان: 1].
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: هَلْ يُقَالُ: إِنَّ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَوْجُودٌ، وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ، أَوْ تَجَرَّدَ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِالْكُلِّيَّةِ؟ قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ: مَحَلُّ نَظَرٍ، قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ الْأَوَّلُ. قَالَ: وَيُسَاعِدُهُ قَوْلُ التَّنُوخِيِّ فِي الْأَقْصَى الْقَرِيبِ: إِنَّ لَعَلَّ تَكُونُ لِلِاسْتِفْهَامِ مَعَ بَقَاءِ التَّرَجِّي. قَالَ: وَمِمَّا يُرَجِّحُهُ أَنَّ الِاسْتِبْطَاءَ فِي قَوْلِكَ: كَمْ أَدْعُوكَ؟ مَعْنَاهُ: أَنَّ الدُّعَاءَ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ لَا أَعْلَمُ عَدَدَهُ، فَأَنَا أَطْلُبُ أَنْ أَعْلَمَ عَدَدُهُ، وَالْعَادَةُ تَقْتَضِي بِأَنَّ الشَّخْصَ إِنَّمَا يَسْتَفْهِمُ عَنْ عَدَدِ مَا صَدَرَ مِنْهُ إِذَا كَثُرَ فَلَمْ يَعْلَمْهُ، وَفِي طَلَبِ فَهْمِ عَدَدِهِ مَا يُشْعِرُ بِالِاسْتِبْطَاءِ. وَأَمَّا التَّعَجُّبُ فَالِاسْتِفْهَامُ مَعَهُ مُسْتَمِرٌّ، فَمَنْ تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بِلِسَانِ الْحَالِ سَائِلٌ عَنْ سَبَبِهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ عُرِضَ لِي فِي حَالِ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهُدْهُدِ! وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَشَّافِ بِبَقَاءِ الِاسْتِفْهَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَمَّا التَّنْبِيهُ عَلَى الضَّلَالِ فَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ مَعْنَى (أَيْنَ تَذْهَبُ؟): أَخْبِرْنِي إِلَى أَيِّ مَكَانٍ تَذْهَبُ، فَإِنِّي لَا أَعْرِفُ ذَلِكَ؟ وَغَايَةُ الضَّلَالِ لَا يَشْعُرُ بِهَا إِلَى أَيْنَ تَنْتَهِي. وَأَمَّا التَّقْرِيرُ: فَإِنْ قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ الْحُكْمُ بِثُبُوتِهِ، فَهُوَ خَبَرٌ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ عُقَيْبَ الْأَدَاةِ وَاقِعٌ، أَوْ طَلَبُ إِقْرَارِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مَعَ كَوْنِ السَّائِلِ يَعْلَمُ، فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ يُقَرِّرُ الْمُخَاطَبَ؛ أَيْ: يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا بِهِ. وَفِي كَلَامِ الْفَنِّ مَا يَقْتَضِي الِاحْتِمَالَيْنِ وَالثَّانِي أَظْهَرُ. وَفِي الْإِيضَاحِ تَصْرِيحٌ بِهِ، وَلَا بِدْعَ فِي صُدُورِ الِاسْتِفْهَامِ مِمَّنْ يَعْلَمِ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ طَلَبُ الْفَهْمِ، إِمَّا طَلَبُ فَهْمِ الْمُسْتَفْهَمِ أَوْ وُقُوعُ فَهْمٍ لِمَنْ لَمْ يَفْهَمْ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَبِهَذَا تَنْحَلُّ إِشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي مَوَاقِعِ الِاسْتِفْهَامِ، وَيَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ بَقَاءُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ مَعَ كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. الثَّانِي: الْقَاعِدَةُ أَنَّ الْمُنْكَرَ يَجِبُ أَنْ يَلِيَ الْهَمْزَةَ، وَأُشْكِلَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ} [الْإِسْرَاء: 40]، فَإِنَّ الَّذِي يَلِيهَا هُنَا الْإِصْفَاءُ بِالْبَنِينَ وَلَيْسَ هُوَ الْمُنْكَرُ؛ إِنَّمَا الْمُنْكَرُ قَوْلُهُمْ: (إِنَّهُ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا). وَأُجِيبُ: بِأَنَّ لَفْظَ الْإِصْغَاءِ مُشْعِرٌ بِزَعْمِ أَنَّ الْبَنَاتِ لِغَيْرِهِمْ، أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ، وَيَنْحَلُّ مِنْهُمَا كَلَامٌ وَاحِدٌ. وَالتَّقْدِيرُ: أَجَمَعَ بَيْنَ الْإِصْفَاءِ بِالْبَنِينَ وَاتِّخَاذِ الْبَنَاتِ؟ وَأُشْكِلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [الْبَقَرَة: 44]، وَوَجْهُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ أَمْرَ النَّاسِ بِالْبَرِّ فَقَطْ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْبَرِّ لَيْسَ مِمَّا يُنْكَرُ، وَلَا نِسْيَانَ النَّفْسِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ ذِكْرُ أَمْرِ النَّاسِ بِالْبَرِّ لَا مَدْخَلَ لَهُ، وَلَا مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ جُزْءَ الْمُنْكَرِ، وَلَا نِسْيَانَ النَّفْسِ بِشَرْطِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ النِّسْيَانَ مُنْكَرٌ مُطْلَقًا، وَلَا يَكُونُ نِسْيَانُ النَّفْسِ حَالَ الْأَمْرِ أَشَدَّ مِنْهُ حَالَ عَدَمِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَزْدَادُ بَشَاعَتُهَا بِانْضِمَامِهَا إِلَى الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْبِرِّ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ نَاسِيًا لِنَفْسِهِ، وَأَمْرُهُ لِغَيْرِهِ بِالْبِرِّ كَيْفَ يُضَاعَفُ بِمَعْصِيَةِ نِسْيَانٍ، وَلَا يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاح: وَيُجَابُ بِأَنَّ فِعْلَ الْمَعْصِيَةِ مَعَ النَّهْيِ عَنْهَا أَفْحَشُ؛ لِأَنَّهَا تَجْعَلُ حَالَ الْإِنْسَانِ كَالْمُتَنَاقِضِ، وَتَجْعَلُ الْقَوْلَ كَالْمُخَالِفِ لِلْفِعْلِ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ مَعَ الْعِلْمِ أَفْحَشَ مِنْهَا مَعَ الْجَهْلِ. قَالَ: وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَلَى أَنَّ الطَّاعَةَ الصِّرْفَةَ كَيْفَ تُضَاعِفُ الْمَعْصِيَةَ الْمُقَارِنَةَ لَهَا مَنْ جِنْسِهَا؟ فِيهِ دِقَّةٌ.
وَهُوَ طَلَبُ فِعْلٍ غَيْرُ كَفٍّ، وَصِيغَتُهُ (افْعَلْ) وَ(لْيَفْعَلْ). وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ، نَحْو: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَة: 43]، {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النِّسَاء: 102]، وَتَرِدُ مَجَازًا لِمَعَانٍ أُخَرُ، مِنْهَا: النَّدْبُ: نَحْو: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الْأَعْرَاف: 204]. وَالْإِبَاحَةُ: نَحْو: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النُّور: 33]، نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ لِلْإِبَاحَةِ. وَمِنْهُ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَة: 2]. وَالدُّعَاءُ مِنَ السَّافِلِ لِلْعَالِي: نَحْو: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الْأَعْرَاف: 151]. وَالتَّهْدِيدُ: نَحْو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40]؛ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِكُلِّ عَمَلٍ شَاءُوا. وَالْإِهَانَةُ: نَحْو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَان: 49]. وَالتَّسْخِيرُ: أَي: التَّذْلِيلُ، نَحْو: {كُونُوا قِرَدَةً} [الْبَقَرَة: 65]، عَبَّرَ بِهِ عَنْ نَقْلِهِمْ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ إِذْلَالًا لَهُمْ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الْإِهَانَةِ. وَالتَّعْجِيزُ: نَحْو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [الْبَقَرَة: 23]؛ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، بَلْ إِظْهَارُ عَجْزِهِمْ. وَالِامْتِنَانُ: نَحْو: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الْأَنْعَام: 141]. وَالْعَجَبُ: نَحْو: {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ} [الْإِسْرَاء: 48]. وَالتَّسْوِيَةُ: نَحْو: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطُّور: 16]. وَالْإِرْشَادُ: نَحْو: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَة: 282]. وَالِاحْتِقَارُ: نَحْو: {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يُونُسَ: 80]. وَالْإِنْذَارُ: نَحْو: {قُلْ تَمَتَّعُوا} [إِبْرَاهِيمَ: 30]. وَالْإِكْرَامُ: نَحْو: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} [الْحِجْر: 46]. وَالتَّكْوِينُ: وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّسْخِيرِ، نَحْو: {كُنْ فَيَكُونُ} [الْبَقَرَة: 117]. وَالْإِنْعَامُ: أَيْ: تَذْكِيرُ النِّعْمَةِ، نَحْو: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الْأَنْعَام: 142]. وَالتَّكْذِيبُ: نَحْو: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آلِ عِمْرَانَ: 93]، {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الْأَنْعَام: 150]. وَالْمَشُورَةُ: نَحْو: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصَّافَّات: 102]. وَالِاعْتِبَارُ: نَحْو: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ} [الْأَنْعَام: 99]. وَالتَّعَجُّبُ: نَحْو: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مَرْيَمَ: 38]، ذَكَرَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي اسْتِعْمَالِ الْإِنْشَاءِ بِمَعْنَى الْخَبَرِ.
وَهُوَ طَلَبُ الْكَفِّ عَلَى فِعْلٍ وَصِيغَتُهُ (لَا تَفْعَلْ)، وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ، وَتَرِدُ مَجَازًا لِمَعَانٍ، مِنْهَا: الْكَرَاهَةُ: نَحْو: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الْإِسْرَاء: 37]. وَالدُّعَاءُ: نَحْو: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آلِ عِمْرَانَ: 8]. وَالْإِرْشَادُ: نَحْو: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [الْمَائِدَة: 101]. وَالتَّسْوِيَةُ: نَحْو: {أَوْ لَا تَصْبِرُوا} [الطُّور: 16]. وَالِاحْتِقَارُ وَالتَّقْلِيلُ: نَحْو: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} الْآيَةَ [الْحِجْر: 88]؛ أَيْ: فَهُوَ قَلِيلٌ حَقِيرٌ. وَبَيَانُ الْعَاقِبَة: نَحْو: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 169]؛ أَيْ: عَاقِبَةُ الْجِهَادِ الْحَيَاةُ، لَا الْمَوْتُ. وَالْيَأْسُ: نَحْو: {لَا تَعْتَذِرُوا} [التَّوْبَة: 66]. وَالْإِهَانَةُ: نَحْو: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 108].
وَهُوَ طَلَبُ حُصُولِ شَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ الْمَحَبَّةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ إِمْكَانُ الْمُتَمَنِّي بِخِلَافِ الْمُتَرَجِّي، لَكِنْ نُوزِعُ فِي تَسْمِيَةِ تَمَنِّي الْحَالِ طَلَبًا بِأَنَّ: مَا لَا يُتَوَقَّعُ كَيْفَ يُطْلَبُ؟ قَالَ فِي عَرُوسِ الْأَفْرَاحِ: فَالْأَحْسَنُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ أَنَّ التَّمَنِّيَ وَالتَّرَجِّيَ وَالنِّدَاءَ وَالْقَسَمَ لَيْسَ فِيهِ طَلَبٌ، بَلْ تَنْبِيهٌ، وَلَا بِدْعَ فِي تَسْمِيَتِهِ إِنْشَاءً. انْتَهَى. وَقَدْ بَالَغَ قَوْمٌ فَجَعَلُوا التَّمَنِّيَ مِنْ قِسْمِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ، وَالزَّمَخْشَرِيُّ مِمَّنْ جَزَمَ بِخِلَافِهِ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَ دُخُولُ التَّكْذِيبِ فِي جَوَابِهِ فِي قَوْلِه: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ} إِلَى قَوْلِه: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الْأَنْعَام: 27، 28]، وَأَجَابَ بِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْعِدَةِ، فَتَعَلَّقَ بِهِ التَّكْذِيبُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: التَّمَنِّي لَا يَصِحُّ فِيهِ الْكَذِبُ؛ وَإِنَّمَا الْكَذِبُ فِي الْمُتَمَنَّى الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدَ صَاحِبِهِ وُقُوعُهُ، فَهُوَ إِذًا وَارِدٌ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ ظَنٌّ، وَهُوَ خَبَرٌ صَحِيحٌ. قَالَ: وَلَيْسَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِه: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أَنَّ مَا تَمَنَّوْا لَيْسَ بِوَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمُتَمَنَّي ذَمٌّ، بَلِ التَّكْذِيبُ وَرَدَ عَلَى أَخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَكْذِبُونَ، وَأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ. وَحَرْفُ التَّمَنِّي الْمَوْضُوعُ لَهُ (لَيْتَ): نَحْو: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الْأَنْعَام: 27]، {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26]، {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ} [النِّسَاء: 73]. وَقَدْ يُتَمَنَّى بِـ (هَلْ) حَيْثُ يُعْلَمُ فَقْدُهُ: نَحْو: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الْأَعْرَاف: 53]، وَبِـ (لَوْ): نَحْو: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} [الشُّعَرَاء: 102]؛ وَلِذَا نُصِبَ الْفِعْلُ فِي جَوَابِهَا. وَقَدْ يُتَمَنَّى بِـ (لَعَلَّ) فِي الْبَعِيدِ، فَتُعْطَى حُكْمَ لَيْتَ فِي نَصْبِ الْجَوَابِ، نَحْو: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} [غَافِرٍ: 36، 37].
نَقَلَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفُرُوقِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ إِنْشَاءٌ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمَنِّي بِأَنَّهُ فِي الْمُمْكِنِ، وَالتَّمَنِّي فِيهِ وَفِي الْمُسْتَحِيلِ، وَبِأَنَّ التَّرَجِّيَ فِي الْقَرِيبِ، وَالتَّمَنِّيَ فِي الْبَعِيدِ، وَبِأَنَّ التَّرَجِّيَ فِي الْمُتَوَقَّعِ، وَالتَّمَنِّيَ فِي غَيْرِهِ، وَبِأَنَّ التَّمَنِّيَ فِي الْمَشْقُوقِ لِلنَّفْسِ، وَالتَّرَجِّيَ فِي غَيْرِهِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ الْكَافَيْجِيَّ يَقُولُ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّمَنِّي وَبَيْنَ الْعَرْضِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرَجِّي. وَحَرْفُ التَّرَجِّي لَعَلَّ وَعَسَى، وَقَدْ تَرِدُ مَجَازًا لِتَوَقُّعٍ مَحْذُورٍ، وَيُسَمَّى الْإِشْفَاقُ: نَحْو: {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشُّورَى: 17].
وَهُوَ طَلَبُ إِقْبَالِ الْمَدْعُوِّ عَلَى الدَّاعِي بِحَرْفٍ نَائِبٍ مَنَابَ (أَدْعُو). وَيَصْحَبُ فِي الْأَكْثَرِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْغَالِبُ تَقَدُّمُهُ: نَحْو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الْبَقَرَة: 21]، {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزُّمَر: 16]، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} [الْمُزَّمِّل: 1، 2]، {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هُودٍ: 52]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} [الْحُجُرَات: 1]، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ، نَحْو: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّور: 31]. وَقَدْ يَصْحَبُ الْجُمْلَةَ الْخَبَرِيَّةَ، فَتَعْقُبُهَا جُمْلَةُ الْأَمْرِ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الْحَجّ: 73]، {يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا} [هُودٍ: 64]، وَقَدْ لَا يُعْقِبُهَا، نَحْو: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [الزُّخْرُف: 68]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فَاطِرٍ: 15]، {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ} [يُوسُفَ: 100]. وَقَدْ تَصْحَبُهُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ، نَحْو: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مَرْيَمَ: 42]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التَّحْرِيم: 1]، {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ} [غَافِرٍ: 41]، وَقَدْ تَرِدُ صُورَةُ النِّدَاءِ لِغَيْرِهِ مَجَازًا: كَالْإِغْرَاءِ وَالتَّحْذِير: وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشَّمْس: 13]. وَالِاخْتِصَاص: كَقَوْلِه: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هُودٍ: 73]، وَالتَّنْبِيه: كَقَوْلِه: {أَلَّا يَسْجُدُوا} [النَّمْل: 25]. وَالتَّعَجُّب: كَقَوْلِه: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]. وَالتَّحَسُّر: كَقَوْلِه: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النَّبَإ: 40].
قَاعِدَةٌ: أَصْلُ النِّدَاءِ بِـ (يَا) فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَنْ تَكُونَ لِلْبَعِيدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَقَدْ يُنَادَى بِهَا الْقَرِيبُ لِنُكَتٍ: مِنْهَا: إِظْهَارُ الْحِرْصِ فِي وُقُوعِهِ عَلَى إِقْبَالِ الْمَدْعُوِّ، نَحْو: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ} [الْقَصَص: 41]، وَمِنْهَا: كَوْنُ الْخِطَابِ الْمَتْلُوِّ مُعْتَنًى بِهِ، نَحْو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الْبَقَرَة: 21]. وَمِنْهَا: قَصْدُ تَعْظِيمِ شَأْنِ الْمَدْعُوِّ، نَحْوُ: (يَا رَبِّ)، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} [الْبَقَرَة: 186]. وَمِنْهَا: قَصْدُ انْحِطَاطِهِ كَقَوْلِ فِرْعَوْنُ: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الْإِسْرَاء: 101].
فَائِدَةٌ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ: كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ النِّدَاءُ بِـ(يَا أَيُّهَا) دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِيهِ أَوْجُهًا مِنَ التَّأْكِيدِ وَأَسْبَابًا مِنَ الْمُبَالَغَة: مِنْهَا مَا فِي (يَا) مِنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّنْبِيهِ، وَمَا فِي هَا مِنَ التَّنْبِيهِ، وَمَا فِي التَّدَرُّجِ مِنَ الْإِبْهَامِ فِي (أَيُّ) إِلَى التَّوْضِيحِ، وَالْمَقَامُ يُنَاسِبُ الْمُبَالَغَةُ وَالتَّأْكِيدُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا نَادَى لَهُ عِبَادَهُ- مِنْ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَعِظَاتِهِ وَزَوَاجِرِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَمِنَ اقْتِصَاصِ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِمَّا أَنْطَقَ اللَّهُ بِهِ كِتَابَهُ- أُمُورٌ عِظَامٌ، وَخُطُوبٌ جِسَامٌ، وَمَعَانٍ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَيَقَّظُوا لَهَا، وَيَمِيلُوا بِقُلُوبِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ إِلَيْهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ، فَاقْتَضَى الْحَالُ أَنْ يُنَادَوْا بِالْآكَدِ الْأَبْلَغِ.
نَقَلَ الْقَرَافِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ إِنْشَاءٌ، وَفَائِدَتُهُ تَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ الْخَبَرِيَّةِ وَتَحْقِيقُهَا عِنْدَ السَّامِعِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الْكَلَامِ فِيهِ فِي النَّوْعِ السَّابِعِ وَالسِّتِّينِ.
|